6 - المراة عام

زها حديد … كانت ذلك الكوكب الذي يدور في مجرةٍ وحده

قد يسهوا الكثيرين في مجتمعاتنا الشرقية إن ضعف المرأة هو أساس قوتها, و إن الفشل أحياناً يكون التحدي الوحيد الذي يقود الكثيرات نحو النجاح، قد تكون العنصرية و التعالي و إستضعاف المرأة في مجتمعاتنا الشرقية هي التي تزيد من تحدي و قوة إرادة النساء اللاتي يبحثن عن النجاح ليكُنَّ بذلك رمزاً من روموز الجنون الذي لا يمكن تكراره , والذي يُقتدى بهِ عالمياً .

تتفوق المرأة الحالمة والطموحة على رجال محيطها نتيجة ما تواجهه من عقبات و استفزاز و تهكم من قبل بيئتها, وهذا ما يزيد من عزيمتها و قوتها ليس لأنها تفوق الرجل قوة، بل على العكس، لأنها تفوقهُ ضعفاً وحاجةً، إلا إن ما يجعلها تتناسى ضعفها وحاجتها هو حلمها المجنون و قسوة محيطها الذي يتعاطى مع ذلك الحلم وكأنه ذنب لا يغتفر .

كثيرات هُنَّ من علمن المجتمع ماهي المرأة ورسمن للمرأة خطى حاول العديد نكرانها، ولكن من خلال لمساتهن إستطعن نحت تلك الحروف الرقيقة على حجارة إسمها المجتمع فكلما حاولوا محوها تتجدد ذاكرتها كتجدد الفصول, لتفاجئهم بفرض نفسها و وجودها و إحترامها رغم محاولاتهم, وتعددت تألُقات النساء فمنهن من لم يحالفهن الحظ لتصل إنجازاتهن الى مسامعنا ومنهن من كان الحظ حليفهن لتذكرهُ محبرتنا وتحفظه أوراقنا, أما من حالفنا الحظ اليوم لتكون من بين النساء اللاتي نحتن أسمائهن و بقوة على حجارة مجتمعٍ غلبت عليه العنصرية و القسوة مثل المجتمع العراقي وكانت ولا تزال اسطورة معمارية و هندسية لم تتكرر كانت زها حديد.

والتي ولدت في وقتٍ كان يتمتع العراق فيه بالحرية الفكرية والثراء الادبي والغنى الثقافي, لتترعرع في بيتٍ سياسيٍ من الطراز الاول وسط عائلةٍ برجوازية لتكن إبنة رجلٍ إهتم بالصناعة والاقتصاد و عني بالسياسة , وبعد أن إشرأبت حديد من الظلمات الى نور الحياة عام 1950 , حيث كان العراق حينها يزهو اقتصادياً لتلتحق بعدها الى مدرسةٍ داخلية في بغداد و إنتقلت بعدها الى سويسرا لغرض إكمال دراستها, لتُكمل دراستها الجامعية في لبنان لتحصل على درجة في الرياضيات من الجامعة الامريكية في بيروت .

ولم تكتفِ حديد من بئر المعرفة لتنتقل بعدها الى الجمعية المعمارية في لندن عام 1972 والتي تعتبر افضل مكان أكاديمي يمكن للمعماري أن يدرس فيه و يطور من قدراته خصوصاً للمعماريين الذين يمتلكون طموحات تفوق خيال محيطهم أمثال زها حديد التي تتلمذت وقتها على يد أبرز علماء العمارة مثل كولهاس الذي وصفها على إنها ” كوكبً يدور في مجرّةٍ وحده.

وقد إختارت زها تنفيذ فندقاً في لندن على جسر هانجر فورد ليكون مشروعاً لتخرجها, وكان الفندق موشكاً على الاقلاع أو الإفلات من الجاذبية الارضية هذا ما كان يوحيه التصميم ويبدو إنها كانت متأثرة وقتها بأعمال الفنان الروسي كازيمير ماليفيتش.

وهذا يبين لنا إن حديد كانت متأثرة بأعمال المدرسة التفكيكية لأنها واسعة الخيال في تصاميمها التي توحي وكأنها مجعولة لكوكب اخر, لكن رغم ذلك لم تتخلِ حديد عن تأثرها وميولها الى العمارة الاسلامية التي على إبراز قيمة الظل والضوء في المكان والتي تعتبر من الفنون الاسلامية العريقة.

ونتيجة تأثر حديد في تصاميمها بالخيال العلمي فقد دفع العديدين يحكمون على تصاميمها في بداية مشوارها على إنها مجرد تصاميم ورقية من المستحيل أن تتعدى حدود الورق لحين تبني شركة هونج كونج لتصاميمها لإعمار منتجع “القمة” , إلا إن اول صدمة واجهت حديد هي إيقاف مشروع القمة بعد خسارة العميل لموقع العمل, لتنتظر حديد عشر سنوات لتصميم مبنى اخر وهو مبنى الاوبرا في كارديف، ولكن يبدو إن سوء الحظ لم يفارق حديد حيث توقف مشروع مبنى الاوبرا هو الاخر، إلا إن المرأة الطموحة تمتلكها وبقوة فبعد كل خطوة فشل أو صدمة أو إعاقة تنهض طموح هذه المرأة وبشكل أكبر و أقوى وبحلم جديد لتثبت حديد ذلك من خلال فوزها في المسابقة التي اقامتها دار الاوبرا الجديد في عاصمة ويلز حيث فازت حديد عن تصميمها الذي يحمل اسم “العقد الكريستالي” , إلا إنه لم يُنفذ على ارض الواقع لسببين إنه لم يجد دعماً مادياً كما إنه لقي معارضة من سياسيي كارديف ذات الطبيعة المحافظة ثقافياً ومعمارياً، وبعد هذا التصميم توالت الصدمات والاخفاقات على حديد التي بلغت الثالثة والثلاثين من العمر دون تنفيذ أي تصميم على ارض الواقع.

ولكن يبدو إن هذه الشابة كانت مؤمنة بخيالها و أحلامها التي أبت أن لا تصمم على ارض الواقع فرسمت الاخفاقات طريق النجاح بهدوءٍ غير معهود لتنفذ أول مشروع لها وهو مركز الفن المُعاصر في سينسيناتي والذي أسكت كل الألسُن التي كانت تزعم بأن تصاميم حديد مجرد خيال جميل لا يتعدى حدود الورق, لتبدأ حديد بعدها مشوار النجاح والمليء بتصاميم غريبة ومثيرة للجدل و أقرب الى عالم الخيال وكان من أكثر التصاميم اثارةً للجدل مرسى السفن في “باليرمو” في صقلية عام 1999 إضافة الى المركز العلمي لمدينة ” وولفسبورج الألمانية” عام 1999 ايضاً, وكذلك المسجد الكبير في عاصمة اوربا “ستراسبورج” عام 2000 , ومنصة التزحلق الثلجي في ” أنزبروك” عام 2001 , والاستاد الاولمبي في لندن عام 2012 . أما من أبرز تصاميمها في المنطقة العربية فهو جسر الشيخ زايد في الامارات العربية المتحدة , و تصميم متحف الفنون الاسلامية في الدوحة و دار الاوبرا في دبي.

بعد صبر طويل وتحديات كبيرة و معوقات أكبر لكن يبدو إن طموح زها حديد كان أكبر من كل ذلك مما جعلها تكون بحق السيدة الاولى التي تفوقت على الرجال في مجالٍ قلّما تمارسه النساء بهذه الدرجة من الحب والحرفية والتألق لتُسكت جميع الألسن التي تتوجه للمرأة بأصابع الضعف و تعاملها بشفقة و تعالي مُعلنةً حديد عن إمبراطوريتها العظمى و التي اسست لها وحققتها بشق الانفس.

اليوم تعيش زها حديد في لندن وهي صاحبة شركة لا يقل عدد موظفيها عن 400 شخص وتعمل على ما لا يقل عن 950 مشروع هي من ضمن الاشهر على مستوى العالم , وقيل إن أحدث مشاريعها ما سيراه العالم بمناسبة دورة الألعاب الاولمبية لعام 2020 في روسيا حيثُ كُلِفَت حديد بإنشار الملعب الرئيس , إضافة الى مشروع مشترك مع شركة صناعة اليخوت الالمانية الفاخرة بولهم فوس كذلك صممت يخت الملياردير الروسي رومان أبراموفيتش ” إيلكبس” الذي يُعتبر ثاني اضخم اليخوت في العالم.

إضافة الى ما سبق تعتبر زها حديد اليوم من أهم المحاضرين في أعرق جامعات العالم مثل جامعة أييل الامريكية وجامعة هارفارد (الجامعة الاولى على العالم) و جامعة كاليفورنيا , وقامت حديد بإعادت اساليب و منهجيات كثيرة في العمارة وبشكل جذري , وتعتبر من النساء النوادر المتخصصين في هذا المجال لذلك حصلت على جائزة بريتزكر للعمارة عام 2004 وتعتبر بذلك أول إمرأة تحصل على هذه الجائزة التي تعادل جائزة نوبل ولكن في مجال العمارة .

لتُمثل زها حديد مشوار عريق و حافل بالانجازات حيث لا نستطيع حصرها في قصة.

اترك ردا