3 - الصفحة الثقافية عام

تأريخ الموروث الشعبي العراقي

الباحث والدارس لفنون الادب والموروث الشعبي العراقي سيندهش لحلاوة وسحر وطلاوة المفردة الشعبية وسيعجب بما تركه لنا المبدعون من شعرائها من نصوص بديعة ومعبرة وخالدة تعيش في اي زمان ومكان من دون ان تسقط او يلغيها الاندثار والنسيان وبحكم حضوري في ساحة الادب الشعبي منذ قرابة نصف قرن مضى فاني وجدت من المناسب  ان اقدم للقارئ الكريم (6) اضاءات مختارة عن مكامن الابداع والمتعة والطرافة في هذا الادب الحي لعلها تكون حافزا لزملائي الباحثين في هذا المضمار الرحب للخوض في غمرات هذا البحر الزاخر لاستجلاء اسراره ودرره المخبوءة في اعماقه التي تمثل غزارة وعمق الذاكرة الجمعية لشعبنا الكريم. موالان لشاعر قديم و ملاحظات عن الجناس
بين حين وآخر أعود لكتاب المرحوم الباحث الشيخ حمود الساعدي (دراسات عن عشائر العراق) الصادر في العام /1988 لأبحث وأنقب بين فصوله وصفحاته عن تلك الشذرات المنسية من الاشعار الشعبية القديمة التي قالها بعض وجهاء عشائر العراق في اواسط القرن التاسع عشر الميلادي المنصرم لأقدم نماذج منها لغرض تعريف القراء بها وباصحابها غير المعروفين في الوسط الشعري  اليوم وذلك لأن سمعتهم ومكانتهم العشائرية بين ابناء مجتمعهم الريفي آنذاك تطغى على السمعة الشعرية ومن هؤلاء وضعت يدي على مجموعة (موالات) لواحد من هؤلاء الشعراء (الشيوخ) وأعني به المرحوم (حسن آل غانم ) احد شيوخ عشائر عموم (عفك) في تلك الفترة الذي كان يمتلك موهبة شعرية مرموقة مازالت بعض اشعاره محفوظة في ذاكرة الناس في تلك الارجاء من ريفنا العراقي فقد قال حسن آل غانم:   هذان البيتان  من الشموال الاول ذو توجه غزلي وجداني جاء فيه:
مر الضحة الريم كاطع للفلا وانذار
مامست النار جلد اللامسج وانذار
يل تجذبني دصد الحسنهه وانذار
هذا (الوضيحي)الينعتونه ابخد رابي
ادعه سنانه ابلب احشاشتي رابي
انجان ياصاحبي الدرب الولف رابي
لتظن انه اسلاك لما اعود الك وانذار
ومفردة (الوضحي ) تعني نوع  من الغزلان التي تتواجد في صحراء نجد بالسعودية والبيت الآخر الذي لم يلتزم  شاعره تماماً بالقافية (الجناس ) لاأدري هل ينم ذلك عن عجز أوعدم مقدرة او حدث ذلك من باب (السهو) والله اعلم ،واليكم البيت الثاني من موالات حسن آل غانم الذي نظمه في أواخر ايامه ..
متوسف امري على عمري الكضه اوفاتلي
وبليس وياي حبل امودته فاتلي
يابالحسن ( ياعلي ) باب الرجا (هاتلي)
من حيث صفرة يميني للدعه مدت
بدلالي اجروح كله اخز انهه مدت
واضعون الاجواد ياحامي الحما مدت
راحوا اهل هاك ظلوا بس اهل هاتلي
البيت جميل وواضح المعاني ويعبر عن شكوى شاعره وللتوضيح اكثر فأني
قد اطلعت من قبل على نماذج من
الموالات العراقية القديمة لشعراء آخرين ووجدت ايضا عدم التزام بعضهم بشروط (جناس) القافية التي تعد من اساسيات نظم الشعر المقفى والمجنس ودليل
على قدرة وتمكن الشاعر في حلبة الشعر وفضائه الواسع .. فهل  هناك تعليل لذلك ياترى…؟

مرة أخرى عن الكحيل والكحلية
قبل أيام قليلة تلقيت ، حكاية بيت من الدارمي (الكحيل والكحيلة ) بعثه لي الاديب وداع عبد علي المعني بالادب الشعبي العراقي ، ونشرنا ذلك تحديداً تحت عنوان (محنة اكحيلة تخلفت عن الخيل ..)
وطلبنا من القراء والمهتمين المشاركة في تلك المناظرة الشعرية الجميلة ، التي دارت عن ذلك البيت الذي يقول :
كحيله ورسن مضبوط والفارس اكحيل
يوم المسابك ليش .. ظلت وره الخيل ..؟
وبالفعل وكما توقعنا فقد تلقينا من الاديب محمد الجابري (اربعة ) من ابيات  الدارمي مجارات لذلك البيت جاء فيها الاتي :
هذا الوكت دولاب ماتعرف اشبيه
اكحيله او فارس زين بس تالي تلكيه
وايضاً :
اكحيله مابيهاش .. كلشي ورسنهه
ثابت الفارس خاف هو الخذلهه
وآخر :
اكحيله ورسن مضبوط .. والفارس اكحيل
مال الوكت وياه .. بمطارد الخيل
والرابع :
الدنيه ماترضاش تمشي وي الكحيل
اتسورب اعيونه اتكوم حسباله بالليل
وهكذا نجد ان المناظرات والمجاراة الشعريـــــة ، التي كثيراً ماتــــــــدور
وتتداول مابين الشعراء خاصة في السنين الماضية ، تفتح افاقا جديدة للتعبير الشعري العذب مابين المبدعين من الشعراء ..
وفي معظم الاحيان ، فأن تلك الابيات سواء كانت من الدارمي او الموال او الابوذية او الميمر او حتى من القصائد تظل راسخة طرية في وجدان وذاكرة الناس والادباء والشعراء وحفظة ومتذوقي الشعر يرددونها في مجالسهم ومضائفهم ومسامراتهم ويضربون بها الامثال ..
وبالفعل فقد دارت مناظرات عديدة ،خصصت للفائزين فيها العديد من الجوائز وعقدت لتقييم نتائجها الجلسات الادبية وشكلت لها اللجان التحكيمية لاختيار الابيات الفائزة المستوفية للشروط ، وهي شروط فنية ادبية بحته تتعلق بالعذوبة والحلاوة
وقوة السبك والسحر والابداع ، وتلك من اساسيات الشعر الراقي الخالد في اذهان الناس والباقي ابداً في ذاكراتهم على مر الازمان ..
ما تبقى في الذاكرة
ويخطر على البال
منذ سنوات طويلة خلت ، ترد على بالي مقاطع شعرية منها الغنائية وغير الغنائية ، ومنها ماهو باللهجة العامية ، ومنها ماهو باللغة الفصيحة ، أظل ارددها بوعي أو من دون وعي المهم انها باقية ، ندية في الذاكرة ، ولعل ما يمر بي يمر ايضاً ببال وخاطر وذاكرة الآخرين من امثالي من أبتلوا ببلوة الشعر الرقيق والعذب وهي بلوى لذيذة ومقبولة ، وادعو الله ان يصيب بها من هو لم يصب بها من قبل ..
فمن بين المقاطع الشعرية الندية التي ترسخت في الذاكرة ، ذلك المقطع الجميل لمظفر النواب الذي ورد في احدى قصائده ، التي قدمها للجمهور ياس خضر في أحلى ترنيمة عراقية لاتنسى :
كل ظني اجيسك بالحلم .. عنبر فحت
ومن ردت اجيسك .. حتى روحي فرفحت
حنيه يا جذاب منك .. ما شفت ..!!
يا حلو يا يزي قهر ..
يا حلو يا جرة كحل
اترف من اجفافي المهر
(قندون) ماضيك شكر ..
لا ادري كيف خطرت على بال النواب تلك الآنية الخزفية التي يوضع فيها (السكر) عند اعداد الشاي التي تطلق عليها تسمية (قندون) التي كانت سائدة في بيوت وحياة ايام زمان ، فقد ابدع الشاعر حين وظفها بهذا الوصف البديع..
ليس هذا فقط ، بل ان هناك مقطعا شعريا يغنيه أحد مطربي فترة سبعينيات القرن الماضي عبر اغنية عراقية لحنها الراحل طالب القره غولي ، وهي من اشعار فقيد المفردة الشعبية الترفة المرحوم زامل سعيد الفتاح :
هواك انته .. يذكرني ابفرات ودجله يوميه
مثل كلبي .. ومثل كلبك تلاكن صافيه النيه
هواك انته .. شتل عنبر يفوح ابغير منيه ..
ما هذه الحلاوة ، وما هذا المذاق الشعري المنعش ، الذي تفرد به الرقيق
(زامل) .. ليس في هذا النص فقط ، بل
نجده يسمو ويتجلى في نص شعري
احلى واجمل شدت  به حنجرة فاضل
عواد قبل (40) سنة مضت كانت بعنوان (حاسبينك) التي تعد من أبرز اغاني تلك الفترة الثرية :
انته روحي ..
وروحي جم حب تدري بيهه
اوداعتك ذاك انته غالي
احبيب وسلوة حجينه ..
.. حاسبينك
ليس هذا فقط ، فهناك العشرات من هذه المقاطع المميزة والمتميزة التي لايمكن لغبار الزمن أن يغطيها او يمسحها من ذاكرتنا كما هو حال هذا البيت الفصيح القوي :
كل السيوف قواطع ان جردت
وحسام لحظك قاطع في غمده

حزورات شعبية في الـ (B.B.C)
في سنوات الصبا والشباب الغابرة ، كنت أسمع من والدي المرحوم
(السيد حسوني السيد صياد) أبيات شعرية من
(الابوذية) يرددها دائماً في مجالسه الخاصة مع أصدقائه وأبناء بلدته الوادعة
الغافية على ذراع الفرات الاوسط (ابو صخير) في باب (الحزورات) الشعرية و(الألغاز) صعبة الحل جداً على فهم ومدارك شاب
لم يتجاوز عمره الـ (15) سنة لا أكثر
ولا أقل وتحديداً في العامين 1964 – 1965..
وعلى كثرة ما كان يرددها (السيد) آنذاك ، ويطرحها في جلساته التي كانت تستقطب الكثير من معارفه ومحبيه ومعظمهم من ذوي الاعمار الأصغر منه سناً ، خاصة إذا ما عرفنا إنه اي المرحوم (السيد) من مواليد عام / 1902 .. نعم فقد حفظت منهما بيتين كنت ارددهما من دون فهم لمعانيهما ، خاصة اذا ما عرفنا ، ان معاني الابوذية تكمن في فك (مغاليق) الجناسات الثلاثة لكل بيت قبيل (القفلة) ليس هذا فقط ،فقد حفظت ايضاً من السيد ، حلول ذينيك البيتين عبر بيتين آخرين من الابوذية ايضاً ، وبمرور الوقت ، وبعد صقل ونمو مداركي وفهمي عرفت معانيهما ، واسرارهما بإعتبارهما من (الالغاز) الشعبية ، وهي بالمناسبة عالم واسع يحتل مكانة مرموقة في عالم الشعر بنوعيه الفصيح والشعبي لايتمكن منها والخوض في ميدانها إلا الشعراء الفرسان المتمكنين من حرفة نظم الشعر والابداع به كما هو حال الابيات التي اشير اليها في هذه المقالة واليكم نص البيتين (الحزورة) اللتين ايضاً لم اعرف قائلهما بالضبط آنذاك :
شنهو .. اللي يون دايم بلا روح ..؟
او شنهو .. الهبت ارياحه بلا روح ..؟
او شنهو .. المرهب الوادم بلا روح ..؟
او شنهو .. الماينام الا ابتجيه ..؟
ونذهب الى البيت الآخر الذي لايختلف عن شقيقه حلاوة وسبكاً إذ يقول :
شنهو.. اللي عله المخلوك داره..؟
اوشنهو ..النكر بزره وعاف داره ..؟
او شنهو ..الماينام الا ابداره ..؟

اترك ردا