7 - تقارير وتحقيقات عام

بغداد.. قبلة الحضارة والفن والتجارة

تميزت بغداد بالموقع الجغرافي والستراتيجي وتوسطها مدنا حضارية كبرى تمتد من شمال العراق إلى جنوبه. إن هذا الموقع الجغرافي التاريخي جعل بغداد تتبوأ موقعا متوسطا بين تلك المدن، الأمر الذي شكل بيئة ملائمة لتطور الإنسان وإنجازاته الحضارية والفكرية. وفي العصور التي سبقت الفتح الإسلامي وما بعده، كانت بغداد في العهد العباسي تحيط بها مدن لها أهميتها الستراتيجية والجغرافية. مثل مدينة بابل الأثرية.

بُنيت بغداد في العصر العباسي بين عاميّ 762 و764م، بناها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، وسماها مدينة المنصور، وجعل لها أربعة أبواب هي: باب خراسان، (وكان يسمى باب الدولة)، وبابُ الشام، ثم بابُ الكوفةِ، ثم باب البصرة. ويشير الدكتور محمد عبد الحسن – الأستاذ في علم الاجتماع – إلى أن «اسم بغداد يرجع إلى عصور سحيقة، إذ ورد اسم «بجدادا» في لوح يرجع تاريخه إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد ، زمن الملك حمورابي».ويضيف عبد الحسن: «من أسمائها (دار السلام) و(مدينة المنصور) و(مدينة الخلفاء) و(المدينة المدورة) و(الزوراء). ولكن الاسم القديم (بغداد) هو الذي ظل عالقاً في أذهان الناس ويتردد على ألسنتهم، فاحتفظت المدينة بذلك الاسم حتى يومنا هذا».
كما ورد اسم بغدادي في لوح آخر يعود تاريخه إلى الأعوام 1341 ـ 1316 قبل الميلاد. وفي لوح آخر يعود تاريخه إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد وورد اسم بجدادو، في وثيقة تاريخية يرقى عهدها إلى سنة 728 قبل الميلاد إبان حكم الملك الآشوري تجلات فلا سر الثالث (745 ـ 727 ق. م).
ويؤكد عبد الحسن أن اسم بغداد في لغة أهل بابل القدماء مكون من قسمين: أوله يعني البستان او الجنينة، أما جزء اسمها الثاني داد فيعني الحبيب، حيث يصبح معنى بغداد هو جنينة الحبيب وصديقه وبستانه، وكانت اللغة الفارسية هي اللغة الرسمية والمعتمدة في العراق منذ سقوط الدولة البابلية عام 539 ق.م إلى مجيء الفتح الإسلامي باستثناء فترات قصيرة خضع فيها العراق لاحتلال الأغريق ثم الرومان.
ويقول عبد الحسن: «كانت قرية بغداد الأصلية قائمة في أثناء الحكم الساساني للعراق. وهكذا جاء بتفسيرات مستمدة من اللغة الفارسية لاسم بغداد، وقد ترددت تلك التفسيرات في كتب المؤرخين اللاحقين. وأكثر هذه التفسيرات شيوعاً هو القائل إن (باغ) تعني بستان بالفارسية و(داد) تعني عطية، فيكون معنى الاسم (البستان العطية)، أو (باغ) اسم صنم او شيطان و(داد) عطية او هبة فيكون المعنى (عطية الصنم)، وقد قرب بعض المعاصرين المعنى فقال إنها تعني (هبة الله). فلا غرابة في أن البكري (ت 487 هجري) قد ضمن اسم بغداد في مصنفه المعروف باسم (معجمنا استعجم) لأنه عد الاسم أعجمياً وأردفه بمعناه العربي».
ويختتم الدكتور محمد عبد الحسن حديثه بالقول: «كما كشفت الحفريات الآثارية في موقع بغداد عن واجهة كبيرة مبنية بالآجر البابلي وعليها اسم الملك البابلي الشهير نبوخذ نصر (605 ـ 562) ق.م وألقابه، وقد وجدت وثائق بابلية تحمل اسم بلدة (بغداد) تعود إحداها، وهي وثيقة قضائية، الى أيام الملك البابلي حمورابي (1792 ـ 1750) ق.م صاحب مسلة القوانين البابلية الشهيرة، وهكذا فإن اسم (بغداد) كان قد استعمل قبل ألف عام على الأقل من دخول كلمة (باغ) بمعنى الصنم او الإله إلى اللغة الفارسية».

الفن البيئي

في كل عام يحتفي المصمم العالمي ميلاد حامد بيوم بغداد عن طريق إقامة عرض أزياء متنوع يضم تصاميم بغدادية ومعاصرة ايضا، بالتعاون مع أمانة بغداد، ولكن إجراءات التقشف هذا العام على ما يبدو حالت دون إقامته، ويرى حامد ان بغداد دائما ما تكون حاضرة في أذهان ورؤى المثقفين العراقيين والفنانين التشكيليين، وهو يدعوهم في الوقت نفسه الى الاهتمام بالفن البيئي العريق الممتد منذ آلاف السنين، ولأن البيئة تعد من المحطات المهمة التي تؤثر في تصاميم ورؤى الفنانين بصورة عامة، فضلا عن الاهتمام والتركيز على النواحي الجمالية للمناطق التراثية التي لا تنتشر في بغداد وحسب بل في جميع أنحاء العراق، ويقف المصمم العالمي بالضد من عمليات البناء الحديثة التي أسهمت بدثر وحجب المناطق المختلفة خصوصا التراثية، ومن المناطق التراثية التي يجب الاهتمام بها شارع الرشيد وهو إرث حضاري عريق، لا بد من الاهتمام به عوضا عن إهماله كما هي الحال الآن، وبالإمكان الاستعانة ببعض المنظمات العالمية ودول العالم المختلفة التي تهتم بالتراث وإحيائه من جديد، كما فعلت اليونسكو مع شارع خان الخليلي في مصر، إذ أحيته من جديد وعملت على ترميمه.
ويصف حامد بغداد بالأم والحبيبة التي يصعب الابتعاد عنها، وتظل هي الأقرب الى النفس مهما زرنا أماكن وعواصم مختلفة في العالم، إلا أن بغداد لها عبق خاص يجمع بين الماضي والحاضر، مشددا على دور المثقفين والفنانين والإعلاميين بضرورة وضع الأساسيات والخطط للنهوض ببغداد، فضلا عن ضرورة متابعة توصيات ومقررات العام السابق في يوم بغداد، والتأكد من تنفيذها بالشكل الصحيح.
ويوضح حامد ان معهد تدريب الازياء بالدار يقوم بتعليم الطلبة كل مجالات وخطوط الموضة العالمية والاهتمام بالتراث العراقي خصوصا البغدادي، وتتنوع الأزياء العراقية وتمتاز بتصاميمها الجميلة من الشمال الى الجنوب، وتحتفظ الدار بمقتنيات وازياء بغدادية تمتد لأكثر من 30 عاما.
ويطمح المصمم العالمي ان يكون هناك اهتمام أكثر بالأزياء العراقية خصوصا البغدادية، حفاظا على هذا التراث العريق من الاندثار.

إعادة حياة بغداد

بينما ترى أستاذة العلاقات العامة في الجامعة المستنصرية الدكتورة سهاد القيسي انه عوضا عن الاحتفال بيوم بغداد وإقامة الاحتفالات، لا بد من إيلاء نظافة العاصمة اهتماما أكبر، إذ من الملاحظ ان الكثير من شوارع بغداد الآن تعاني من انتشار النفايات، علما ان هناك محاولات فردية من بعض المناطق بالعاصمة لتنظيف الشوارع وزراعة النباتات، وكذلك تعاني المناطق التراثية من الإهمال.
وتكشف القيسي ان هناك مجموعات شبابية تحاول أن تنظف العاصمة وتهتم بها، وايضا محاولة التخلص والقضاء على آثار غرق العاصمة الذي تسبب بالتلوث وانتشار الأمراض بشكل كبير، وتدعو الجهات المسؤولة الى بذل أقصى الجهود لإعادة الحياة الى العاصمة بغداد، التي تعاني بشكل كبير من مختلف المشاكل خصوصا قلة النظافة.

تشويه تصميمها

يقول الدكتور كامل الكناني – الخبير في تخطيط المدن من جامعة بغداد- إن «بغداد تتحدث عن نفسها ولا تحتاج أن يتحدث عنها أحد، كونها إحدى المدن التاريخية والحضارية وشهدت مخططات حضرية منذ خمسينيات القرن الماضي، إذ تم وضعها كمخططات أساسية لمدن حالية، إلا أنها لم تنفذ حتى الآن وكانت تلك المخططات «في واد والتنفيذ في واد آخر».
وأضاف انها تعرضت الى تشويه كبير جدا بفعل القرارات السياسية التي لا تعتمد على أشياء تخطيطية، ولهذا نمت بغداد على شكل «انتفاخ سريع وكبير جدا» أوصلها الى حالة التخلف التي تعيشها الآن مدن العراق الأخرى، ما أدى الى حصول هجرة سكانية غير طبيعية الى هذه المدينة وخاصة في مرحلة ما قبل سبعينيات القرن الماضي، ووفق هذه الهجرة أصبحت هنالك تراكمات لاحقة لم تتم
معالجتها.
وضرب مثلا بمدينتي الصدر والشعلة والمدن الأخرى التي تأسست في الثمانينيات كحي طارق وأصبح حالة غير طبيعية في أحد أجنحة مدينة بغداد، معتبراً ان مثل هذا التوسع الافقي الكبير جدا في المدينة لم تستطع المخططات الاساسية التي وضعت للمدينة ولا الإدارة الحضرية التي جاءت اليها من استيعابه، وبقيت المسألة تعتمد على قرارات سياسية بتوزيع الأراضي كمكافآت وكأنها ملك لقائد او سياسي معين، ما ادى بالمدينة الى أن تكون مبعثرة ومنتشرة وغير قادرة على تلبية الخدمات لساكنيها.
وتابع بأن سكان مدينة بغداد الأصليين ومن هاجر اليها فيما بعد لم يتمتعوا بالمدينة وحضارتها وبنيتها العمرانية، مشيراً الى وجود الكثير من الامور التي شوهت الهيكل العمراني والبعد الحضاري لها خصوصاً الفيضانات التي اجتاحتها مؤخراً وحالة التوظيف غير المتناسق.
وأعرب الكناني عن أمله بوجود حلول للتخطيط العمراني لمدينة بغداد لتحمل أهاليها وزرا كبيرا وما زالوا يتحملون، فإذا بقي الوضع على هذه الحال التي هي عليه الآن والإدارة الحضرية للعاصمة غير كفوءة فبالتأكيد ستكون النتائج سيئة الى مديات بعيدة وقد تمتد الى عشر سنوات اخرى، مؤكدا ان الحل يبدأ من الاعتماد على الكفاءات المتخصصة في هذا الجانب، بعيدا عن وجهات النظر والمحاصصة والتأثيرات السياسية التي تؤثر في هذا الجانب، إذ إن بغداد تحتاج الى مخططين ومهتمين بها كونها تمثل وجه العراق المشرق والقلب الاقتصادي له، منوهاً بأن مشاريع ستراتيجية كان يمكن ان تنفذ في عامي 2004 و2005 وتغير من مدينة بغداد بشكل كلي كمشروع ماء الرصافة الكبير الذي ما زال يعاني من حالتي الفساد والتلكؤ، فضلاً عن مشاريع (مدينة المستقبل، أراضي معسكر الرشيد، الخنساء للمجاري، تطوير شارع الرشيد)، الذي صرفت على استشاراته وتصاميمه ملايين الدولارات دون أن يكون هنالك شيء على أرض الواقع ومشروع «10×10» الذي كان مؤملاً ان يكون مفخرة على أطراف العاصمة، مبيناً ان عدم اكتمال تلك المشاريع ادى بنا الى ان نعيش حالة المأساة
وأكثر.
وألمح الى ضرورة أن يكون هنالك بناء عمودي في مدينة بغداد نظراً للكثافة السكانية الموجودة فيها، وأسند ذلك قرار مجلس الوزراء الذي صدر في العام 2009 الذي يمنع بشكل بات البناء الأفقي في بغداد والتوجه نحو البناء العمودي لكل الاراضي التي توزع من قبل الدولة، والتركيز في ذلك على أن يكون على مساحات الاراضي للوزارات التي ترغب ببنائها، لكن هنالك وزارات مارست بشتى الطرق وسائل ضغط على اللجنة العليا للتصميم الأساسي لمدينة بغداد لتوزيعها بين الموظفين كقطع أراض، ما يستدعي بناءها بشكل أفقي رغم تأكيد اللجنة على الوزارات بأن هنالك كتابا من مجلس الوزراء يمنع ذلك.
ونبه الكناني الى ان اتجاه العالم اليوم نحو الوحدات السكنية الصغيرة، إذ إن أغلب الأسر تفضل مكاناً فيه خدمات متوفرة من روضات ومدارس وسوق، إلا أن العراق يعاني وبغداد بشكل خاص من تشتيت الملكيات من خلال تقسيم الأرض الواحدة الى أربع أو ست قطع أراض، مؤكداً ان العاصمة بغداد يمكن أن تنهض، إذ إن كل المستلزمات متوفرة إلا أنها تحتاج الى الإرادة لذلك فالتخطيط موجود لكن التنفيذ غير موجود، ضارباً المثل بتقديم المخططين لتصاميم رائعة لمدن الكاظمية والاعظمية ومركز العاصمة إلا أن المسؤولين يضعونه على الرف ويكون التنفيذ باتجاه آخر.

اترك ردا