7 - تقارير وتحقيقات عام

الشيخ الآصفي.. الزاهد المتحديّ

انتقل الى رفيقه الأعلى، الخميس، عالم زاهد، افنى حياته في الجهاد والتنوير، وإعلان كلمة المسلمين الشيعة، في زمن قلّ فيه النصير، وخافه فيه كثيرون، سطوة النار والحديد، في زمن الدكتاتور المقبور صدام حسين، الذي سخر آلته العسكرية واجهزته الأمنية لعمليات إبادة للمكون الأكبر في العراق، مركزا على العلماء، بالتهديد والوعيد والاغتيال والتهجير، وكان الشيخ الآصفي واحدا من الرعيل الأول للمجاهدين الذين ذاقوا جور النظام، فقارعوه بالكلمة والفعل، على طريق نيل الحرية.

ولم يكن خلاص العراقيين من نظام صدام حسين بالآلة العسكرية الامريكية، فلم تكن هذه الالة سوى أداة وظّفتها الإرادة الجمعية التي وجهها العلماء باتجاه الخلاص، بينهم الشيخ الآصفي، فلولا تلك الإرادة الجمعية ما تمكن الاجتياح الأمريكي من اسقاط النظام الدموي، لتتمخض نتائج جهاد علماء العراق بينهم الشيخ الآصفي، في الحركة الاسلامية في العراق، عن نظام ديمقراطي، ونيل شيعة العراق الذين هم المكون الأكبر، الحق في إدارة شؤون بلاد، هم الغالبية فيها.

والشيخ الآصفي، في سيرته السياسية، كان أحد أبرز القيادات الرئيسية السابقة في حزب الدعوة، وكان يشغل منصب المتحدث باسم الحزب لسنوات طويلة، قبل أن يقرر اعتزال العمل السياسي والتفرغ للعمل الديني.

على ان ما يبرز في حياة الشيخ الآصفي، ذلك الزهد، والترفّع عن اغراءات الحياة الدنيا، فلم يكن في مكتبه ومنزله سوى ذلك الانسان البسيط، الذي يسد رمقه بما يمكّنه من الاستمرار في الحياة وخدمة الناس، ليس اكثر، فيما التواضع ديدنه الذي ادهش كل من زاره، وهو ما يؤكده الباحث صباح محمد كاظم لـ”المسلة” حين زاره في بيته، ليجد انسانا، كل ما حوله “بسيط”، دمث الاخلاق، يبذل الجهد متفانيا في الإجابة والتوضيح.

هذ الصفات السامية، تجسدها مدونة للشيخ الراحل في صفحته التفاعلية في “فيسبوك” حين يقول ان “الصدر الضيق هو الذي لا يستوعب هموم العمل ومتاعب المواجهة، فتطفح عليها المتاعب وهموم العمل، وتتحول الى الجزع، والتعب و اليأس”.

ويقول أيضا “أما الصدور التي يشرحها اللّه تعالى فإنها تستوعب المشاكل والهموم والمتاعب، وتتحول فيها الى الصبر والمقاومة، والاستعانة باللّه”.

ويضيف “مثل الصدور التي يشرحها اللّه كالبحر، لا يلوّثه شيء مما يلقى فيه من القذارة، أما الساحات الراكدة والمحدودة من الماء فإنَّها سرعان ما تلوّثها الاقذار وتطفح عليها، وتغير لونها وطعمها ورائحتها… والفرق، سعة الاناء وضيق الاناء”.

ولك ان تتصور سمو روح شيخ جليل، يكتب بهذه العزيمة والتحدي، مثلما يتيح ذلك لك معرفة سبب عزوفه عن وسائل الاعلام، متقشّفا في الظهور، مشتغلا في الفكر، والتوجيه، والتنوير، ما جعله اسوة حسنة للكثيرين.

ان هذه الصفات الثورية، والمثالية، دفعت المرشد الأعلى في ايران، السيد علي خامنئي، الى اختيار شيخ الجهاد الاجتهاد، العالم الفاضل، و الورع والمجاهد الكبير والمفكر الاسلامي، ممثلا لقائد الثورة الاسلامية في العراق، لاسيما وان الراحل كان أحد أبرز رفاق وأنصار الامام الخميني الراحل.

وكان مكتب العلامة الراحل آیة الله الآصفی في النجف الاشرف، أصدر بیانا، الخميس، نعى فیه “رحیل ممثل قائد الثورة الاسلامیة في هذه المدینة والذي وافته المنیة فجر الخميس، وقدّم التعازي الی مراجع الدین العظام والعلماء و الحوزات العلمیة في النجف الاشرف و قم المقدسة بمناسبة رحیل هذا العالم الدیني المجاهد الذی کان من الانصار القدامی للإمام الخمینی”.

و يذكرُ الذين عايشوا الشيخ الراحل، انه كان من الجيل الذي حمل سجيّة الرجال العظماء، والعلماء الافذاذ، وفي مقدمتهم السيد الامام الخميني، والسيد الشهيد الصدر، فقد اشترك مع هؤلاء العظام في أداء التكليف الشرعيّ، والذوبان في الإرادة الإلهيّة، والإخلاص المذهب، فلم يكن يشغله في الدنيا غير ذلك.

ولأنه عايش أولئك الكبار، فلم تغره الحياة، ورفض التعالي عن حياة البسطاء، ليس في الغذاء وسد الرمق فحسب، بل وحتى في العلاج، فحين عُرض عليه العلاج في احدى المستشفيات الغربية، رفض ذلك، داعيا الى انفاق الأموال على الفقراء والمحتاجين.

لقد وضحت رؤية الرجل في المواقف المفصلية، لاسيما ما يتعلق بتخليص شيعة العراق من نظام صدام، متبنيا موقفا حكيما في ضرورة التعجيل في تخليص شعب العراق عامة، والشيعة خاصة، من الظلم.

 وعلى رغم اعتلال صحته، ظلّ الشيخ، على علاقة وطيد بالأحداث، وصلة يومية بالناس، وجهَدَ بكل طاقته الى بلوغ الأهداف السياسية والدينية على حد سواء، ما جعله نبراسا لكل من عمل معه او اخذ بمشورته لاسيما رجال حزب الدعوة الذين استمدوا العزم من ارادته وشكيمته وصبره.

 واذا كان حال البعض قد تغير بعد 2003، بسبب ظروف المنصب والجاه السياسي، فان الشيخ ظل على حاله، فقير المادة، غني النفس، غير عابئ بمنصب او غنيمة مادية، على رغم ان السبل مفتوحة امامه، لكنه ابى الاّ ان يظل كما هو، على طراز الزاهدين الكبار من أمثال الإمامين الراحلين الخميني، والصدر.

 ستبقى سيرة الآصفي الجهادية خالدة في ذاكرة الأجيال، ملهمة المسلمين روح التحدي على نهج مقاومة الظلم، وتمكين الشعوب المستضعفة على النهوض، ومسك زمام أمرها بنفسها.

اترك ردا