7 - تقارير وتحقيقات عام

البعد الأخلاقي لثورة الإمام الحسين(عليه السلام)

سلوك سيد الشهداء(عليه‌السلام) وسيرته الأخلاقية تعكس سمو نفسه وتربيته في حجر جدّه محمد(صلى‌الله‌ عليه‌ وآله وسلم) وأبيه علي(عليه‌السلام) ، وتجسيده للقرآن الكريم في عمله وأخلاقه.

وقد تجسدت خصاله الكريمة وسجاياه السامية في مختلف الميادين والمواقف في ثورة الطف منها رفضه القاطع مبايعة (يزيد) ، فخرج من المدينة وامتنع عن مبايعته حتّى في أقسى الظروف التي مرت به في كربلاء من حصار وعطش ومختلف التحدّيات؛ بل استقبل الموت بعزّة وشموخ، وسقى (الحرّ) وجيشه طوال الطريق، وقَبِل يوم عاشوراء توبة (الحرّ).

ورفع البيعة عن أنصاره لينصرف من يشاء منهم الانصراف، وكان يعطف على أطفال (مسلم بن عقيل) بعد شهادة أبيهم، كما صبر على كل المصائب والشدائد التي واجهته في ذلك اليوم ومنها مقتل أصحابه وأهل بيته.

ورغم كل تلك المواقف العصيبة والوحدة القاتلة والعطش الشديد قاتل أعداءه كالليث ولم ترهبه كثرتهم… كان يرى أنّ نهضته قائمة على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأشار عدّة مرّات أثناء مسيره إلى كربلاء إلى هوان الدنيا وتصرّمها، وبيّنَ زهده فيها، وتحمّلَ في يوم الطفّ كل ما رآه من عدوّه من سوء الخلق ولؤم الطباع، وبعد استشهاده وجدوا على أكتافه آثار أكياس الطعام التي كان يحملها إلى الفقراء إلى غير ذلك من خصال نفسه الزكية وسمات نهضته الأخلاقية التي يمكن الإشارة إلى أهمها بالنقاط التالية:

 

١ – الإيثار:

 

وهو من أبرز المفاهيم والدروس المستقاة من واقعة الطف، والإيثار يعني الفداء وتقديم شخص آخر على النفس، وبذل المال والنفس والنفيس فداءً لمن هو أفضل من ذاته، وفي كربلاء شوهد بذل النفس في سبيل الدين، والفداء في سبيل الإمام الحسين(عليه‌السلام) ، والموت عطشاً لأجل الحسين(عليه‌السلام) ، وأصحابه ما داموا على قيد الحياة لم يدعوا أحداً من بني هاشم يبرز إلى ميدان القتال، إيثاراً منهم على أنفسهم.

وفي ليلة عاشوراء لمّا رفع الإمام(عليه‌السلام) عنهم التكليف لينجوا بأنفسهم قاموا الواحد تلو الآخر، وأعلنوا عن استعدادهم للبذل والتضحية… يروي (الشيخ المفيد -رحمه‌الله-) : « انّ الحسين-عليه‌السلام- قال لأتباعه:

ألا وإنّي لأظنّ أنّه آخر يوم لنا من هؤلاء… ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم منّي ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً .

فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبداللّه بن جعفر :  لم نفعل ذلك لنبقى بعدك؟! لا أرانا اللّه ذلك أبداً.

بدأهم بهذا القول العباس بن علي -رضوان اللّه عليه- واتّبعته الجماعة عليه فتكلّموا بمثله ونحوه.

فقال الحسين(عليه‌السلام) :يا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم، فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم .

قالوا: سبحان اللّه، فما يقول الناس؟! يقولون إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا – خير الأعمام – ولم نرمِ معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا لا واللّه ما نفعل ذلك، ولكن نفديك أنفسنا وأموالنا وأهلينا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبّح اللّه العيش بعدك.

 

وقام إليه (مسلم بن عوسجة) فقال: أنخلّي عنك ولمّا نعذر إلى اللّه سبحانه في أداء حقّك؟ أما واللّه حتى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، واللّه لا نخلّيك حتى يعلم اللّه أن قد حفظنا غيبة رسول اللّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيك، واللّه لو علمت أنّي أقتل ثمّ أحيا ثمّ أحرق ثمّ أحيا ثمّ أذرى، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حمامي »(١) .

 

ووقف بعض أصحاب الإمام الحسين(عليه‌السلام) ظهيرة يوم عاشوراء عندما وقف لصلاة الظهر يقونه سهام العدو بصدورهم، وخاض (العباس) نهر الفرات بشفاه العطشى، ولما أراد تناول الماء تذكّر عطش الحسين والأطفال فلم يشرب منه، وقال(٢) :

 

يا نفس من بعد الحسين هوني              وبعده لا كنت أن تكوني

هذا الحسين وارد المنون                       وتشربين بارد المعين

تاللّه ما هذا فعال ديني

 

ورمت زينب(عليها‌السلام) بنفسها في الخيمة المشتعلة بالنار لإنقاذ الإمام زين العابدين منها، وحينما صدر الأمر في مجلس يزيد بقتل الإمام السجّاد(عليه‌السلام) فدته زينب(عليها‌السلام) بنفسها.

 

وهناك أيضاً عشرات المشاهد الأخرى التي يعد كل واحد منها أروع من الآخر، وكل موقف منها يعطي درساً من دروس الإيثار للأحرار، فإذا كان المرء على استعداد للتضحية بنفسه في سبيل شخص آخر أو في سبيل العقيدة، فهذا دليل على عمق إيمانه بالآخرة والجنّة وبالثواب الإلهي، قال الإمام الحسين(عليه‌السلام) في بداية مسيره إلى كربلاء:

«من كان باذلاً فينا مهجته، وموطِّناً على لقاء اللّه نفسه، فليرحل معنا، فإنّي راحل مصبحاً إن شاء اللّه تعالى »(3) .

 

وهذه الثقافة نفسها – ثقافة الإيثار – هي التي دفعت بعمرو بن خالد الصيداوي لأن يخاطب الحسين(عليه‌السلام) في يوم عاشوراء قائلاً:

« يا أبا عبداللّه جعلت فداك قد هممت أن ألحق بأصحابك وكرهت أن أتخلّف فأراك وحيداً بين أهلك قتيلاً.

فقال له الحسين(عليه‌السلام) :تقدّم فإنّا لاحقون بك عن ساعة، فتقدّم فقاتل حتى قتل -رضوان اللّه عليه- »(4) .

 

كما أشارت زيارة عاشوراء إلى صفة( الإيثار) التي يتحلّى بها أصحاب الحسين، فوصفتهم بالقول: «الّذين بذلوا مُهجهم دون الحسين -عليه‌السلام- »(5) .

 

٢ – الشجاعة:

 

وهي الإقدام عند منازلة الخصوم وعدم تهيّب المخاطر، واقتحام الخطوب، وتعد الشجاعة من الصفات المهمّة التي تميّزت بها شخصية الإمام الحسين(عليه‌السلام) وأصحابه وأهل بيته؛ إذ نقرأ عن الاندفاع والحماس المنقطعي النظير الذين جسدوهما في سوح الوغى، والتسابق على بذل الأرواح رخيصةً فداءً للدين والمبادىء، ورسمت ملحمة كربلاء – منذ انطلاقها وحتى مراحلها الأخيرة – مشاهد تتجسد فيها معالم الشجاعة بشتى صورها، والأمثلة على ذلك كثيرة، فالتصميم الذي أبداه الإمام الحسين(عليه‌السلام) في معارضة (يزيد) ورفض البيعة له، وعزمه الراسخ على المسير نحو الكوفة والتصدّي لأنصار( يزيد)، من أمثال( ابن زياد)، وعدم انهيار معنوياته لسماع الأخبار والأوضاع التي كانت تجري في الكوفة، وإعلانه على الملأ عن الاستعداد لبذل دمه والتضحية بنفسه في سبيل إحياء الدين، وعدم الخوف من كثرة الجيش المعادي رغم كثرة عدده وعدته، ومحاصرة هذا الجيش له في كربلاء مع عدم استسلامه، والقتال العنيف الذي خاضه بعد ذلك مع جنوده وأهل بيته، وصور البطولة الفردية التي أبداها أخوه (العباس)، وابنه (علي الأكبر)، وابن أخيه (القاسم)، وعامة أبناء (علي) وأبناء (عقيل)، والخطب التي ألقاها الامام السجاد وزينب(عليهما‌ السلام) في الكوفة والشام وغيرها من المواقف والمشاهد البطولية تعكس بأجمعها عنصر الشجاعة الذي يعدّ من أوّليات ثقافة عاشوراء.

وعلى وجه العموم كان آل الرسول أمثلة خالدة في الشجاعة والإقدام وثبات الجنان، وكانت قلوبهم خالية من الخوف من مواجهة الحتوف، وكانت ساحات القتال في زمن الرسول(صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم) وحروب علي(عليه‌السلام) في الجمل ،وصفين، والنهروان شاهدا يعكس شجاعة آل البيت(عليهم‌السلام ) .

وقد عد  الامام السجاد(عليه‌السلام) الشجاعة من جملة الخصال البارزة التي منَّ اللّه بها على هذه الأسرة الكريمة، وذلك لما قال في خطبته في قصر الطاغية يزيد:

«فضلنا أهل البيت بستّ خصال: فضلنا بالعلم والحلم والشجاعة والسماحة والمحبّة  والمحلةفي قلوب المؤمنين، وآتانا ما لم يؤت أحداً من العالمين من قبلنا، فينا مختلف الملائكة وتنزيل الكتب »(6) .

 

وكان لهذه الشجاعة موارد مختلفة، فهي في مجال القول واللسان، وكذلك في تحمّل أهوال المنازلة ومقاتلة العدو، والإغارة الفردية على صفوف جيشه، وكذلك في تحمّل المصائب والشدائد، وعدم الانهيار والقبول بالدنيّة بدليل أنّه لما اشتدّ القتال، قال:

«أما واللّه لا أجيبهم إلى شيء ممّا يريدون حتى ألقى اللّه تعالى وأنا مخضّب بدمي »(7) حتى أنّ العدو والصديق قد أثنى على شجاعة الحسين(عليه‌السلام) وصحبه وأهل بيته، ألم يخاطب (عمر بن سعد) قومه بالقول: « الويل لكم، أتدرون من تبارزون! هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتّال العرب، فاحملوا عليه من كلّ جانب »(8) .

وما أمر المجرم (عمر بن سعد) بالهجوم الشامل على أفراد جيش الإمام ورميهم بالحجارة إلاّ دليل على تلك الشجاعة الفريدة.

وكنتيجة لما يتحلّى الحسين(عليه‌السلام) وأسرته من شجاعة حصلوا على أكبر عدد من أوسمة الشهادة، يقول (عباس محمود العقاد) : « فليس في العالم أسرة أنجبت من الشهداء من أنجبتهم أسرة الحسين عدّة وقدرة وحسبه أنّه وحده في تاريخ هذه الدنيا الشهيد ابن الشهيد أبو الشهداء في مئات السنين »(9) .

 

ومع أنّ الأرقام التي تذكرها المَقاتل عن عدد قتلى العدو نتيجة لهجوم أصحاب الإمام عليهم قد تكون مبالغاً فيها إلاّ أن الأمر الثابت الذي لا يمكن إنكاره هو الشجاعة المثيرة لهذه الثلّة المؤمنة التي بذلت نفسها في سبيل اللّه، ولم تطاوعها نفسها بترك قائدها في الميدان وحده.

 

٣ – الشهامة والمروءة:

 

تعد من المعالم الأخلاقية والنفسية البارزة لدى الحسين(عليه‌السلام) وأنصاره، والتي تجسدت في ملحمة عاشوراء، وهذه النفسية التي تجعل الإنسان يشمئز من الطغاة، ويرفض الانصياع لسلطان الظلم، ويحب الحرية والفضيلة، ويتجنّب الغدر ، ونقض العهد ، وظلم الضعفاء، ويدافع عنهم، ولا يتعرض للأبرياء، ويقبل العذر، ويقيل العثرة، ويعترف بالحق الإنساني للآخرين… هذه الأمور كلها تعد من معالم( الشهامة، والمروءة )التي تجسدت على أرض الطف.

لقد رفض سيد الشهداء(عليه‌السلام) عار البيعة ليزيد، ولما واجه جيش الكوفة في طريق كربلاء، رفض اقتراح (زهير بن القين) الذي أشار عليه بمحاربة هذه الفئة من قبل أن يجتمع إليهم سائر الجيش، وقال(عليه‌السلام) : « وما كنت لأبدأهم بالقتال »(10) ، وهذا نموذج رائع من شهامة الحسين(عليه‌السلام) .

ولما لقي جيش (الحر) وقد أضرّ بهم العطش أمر بسقيهم الماء هم وخيلهم، رغم إنهم جاءوا لمجابهته وإغلاق الطريق عليه، وكان من بينهم (علي بن الطعان المحاربي) الذي ما كان قادراً على شرب الماء من فرط عطشه، ويروي لنا القضية بنفسه، قال: « كنت مع الحُرّ يومئذ فجئت في آخر من جاء من أصحابه، فلما رأى الحسين-عليه‌السلام- ما بي وبفرسي من العطش، قال:أنخ الراوية ، ثم قال:يابن أخي أنخ الجمل ، فأنخته فقال: اشرب، فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء، فقال الحسين(عليه‌السلام) : اخنث السقاء( أي اعطفه)، فلم أدر كيف أفعل، فقام فخنثه فشربت، وسقيت فرسي »(11) . وهذا مثال آخر على مروءته(عليه‌السلام) .

ولما عزم الحر الرياحي على مفارقة جيش عمر بن سعد والانضمام إلى معسكر الحسين(عليه‌السلام) وقف الحر بين يدي الحسين(عليه‌السلام) منكسراً معلناً توبته واستعداده للتضحية بنفسه قائلاً: هل لي من توبة؟ فقال له أبو عبد اللّه(عليه‌السلام) : « نعم يتوب اللّه عليك، فانزل »(12) ، وهذا نموذج آخر على مروءة الحسين(عليه‌السلام) ، فهو يقبل عذر المعتذر، ولا يغلق باب التوبة في وجهه.

وفي قيظ يوم عاشوراء واشتداد حر الرَّمضاء لما رأى الحسين(عليه‌السلام) هجوم الجيش على خيام عياله صاح بهم يعنّفهم: «ويلكم! إنْ لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا في أمر دنياكم أحراراً ذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طغامكم وجهّالكم »(13) . وهذا أيضاً شاهد آخر على مروءته وشهامته، فهو ما دام حيّاً لم يكن قادراً على رؤية العدو وهو يهجم على عياله، وقد شوهدت هذه الغيرة والحمية من الإمام الحسين(عليه‌السلام) وأنصاره في ساحة القتال يوم العاشر من المحرّم.

وهذه السجية قد استقاها من أبيه أمير المؤمنين(عليه‌السلام) الذي غلب جيش الشام في (صفين)، وانتزع منه شريعة الفرات، ثم قال لجنده: « خلّوا بينهم وبينه »(14) ، ولكن لؤم (معاوية) الذي ورثه (يزيد) دعاه إلى منع الماء عن جيش الحسين بن علي(عليه‌السلام) .

روى (الشيخ الصدوق)- قدس‌سره- أنّ (عبيد اللّه بن زياد) كتب إلى (عمر بن سعد) : « إذا أتاك كتابي هذا، فلا تمهلنّ الحسين بن علي، وخذ بكظمه، وحل بين الماء وبينه »(15) .

فالحسين(عليه‌السلام) قد ورث الشهامة عن علي(عليه‌السلام) ، ويزيد ورث الخسة عن معاوية.

 

٤ – العزة ورفض الذّل:

 

هي من أهم الدروس الأخلاقية التي ميّزت نهضة كربلاء، ومن أوّليات ثقافة عاشوراء… قال الحسين(عليه‌السلام) : «موت في عز خيرٌ من حياة في ذل »(16) .

وقال(عليه‌السلام) لما عرضوا عليه الاستسلام والبيعة: «لا واللّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد »(17) .

وفي كربلاء حينما خيّروه بين البيعة أو القتال، قال: «ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى اللّه ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن نُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام »(18) .

وعند اندلاع معركة الطفّ كان يكرّ على صفوف العدو مرتجلاً(19) :

 

القتل أولى من ركوب العار                والعار أولى من دخول النار

 

لقد كانت نهضة كربلاء درساً عملياً من دروس العزة والكرامة ورفض الذل، واستلهم الثوّار منها روح المقاومة والتحرّر.

اترك ردا