3 - الصفحة الثقافية عام

تجربة الشاعر عارف الساعدي في القصائد العمودية

كتب الشاعر (عارف الساعدي) قصائد عموديَّة و قصائد تفعيلة فضلاً عن نصَّين نثريين في مجموعته الشعريَّة (جرَّة أسئلة) الصادرة عن الدار العربية للعلوم-ناشرون 2013.. في القصيدة العموديَّة الأولى (أول أيام الخلق ص 26) لم يكن الاشتغال على ما هو جديد حاضراً بدءاً من العنوان انتهاء بحروف القافية.. وما بينهما ينزلق إلى تقليديَّة مستَهلكة بما يستخدمه ويكرره من مفردات ظلَّت أسيرة التشكُّل اللغوي البسيط المفتقر إلى تحديثات القاموس اللغوي وإلى رصانة الصورة ودلالاتها الجمالية..(وبلبل حالم بالغصن والتين) (وهم يمرُّون بين الحين والحينِ ) والشاعر الجواهري يقول (… بين الحين والحينِ).

كما انه أقدم على استخدام مفردة ” الطين” “تسع” مرَّات في القصيدة! ولم يكتفِ بهذا بل تاه إلى مهاوي تكرار لم تسعفه مسوغات التوظيف الجمالي..(كنا اقتراحا…… كنت اقترحتك….. واقترحي وجوههم) فضلا عن تكرار هذه العبارات في قصائد أخرى مثل قصيدة (ضياعات ص74) إذ يقول (لم تقترح شفتيها) وقصيدة (فرح ظامئ ص100) (لم نقترح أي لون) وفي قصيدة (للذين انتظروا وانكسروا ص104) (واقترحناك على أشيائنا) ! وأمام هذا وغيره تكسَّرت اللعبة الشعريَّة وهي تحاول نقل مسألة الخلق من عالمها الميتافيزيقي إلى عالمها الأرضي.
التباس المعنى على القارئ

وفي قصيدة (الطوفان ص36) يكرِّر الشاعر خطاه في مهاوي تقليديَّة (كأنَّهم سمعوا صوتي وما سمعوا…) فضلاً عن التباس المعنى على القارئ، فالشاعر وفي محاولة تناصيَّة لإحالة القارئ إلى النصِّ المثيولوجي حول (الطوفان) يعاتب أباه على تركه له مرَّة وعلى اللاجدوى من عملية الإنقاذ مرَّة أخرى، لكنَّنا نكتشف فجأةً أنَّه يفترض طوفاناً آخر يدعو فيه هذه المرَّة إلى صناعة السفينة.!
أما في قصيدته العمودية الثالثة (لماذا ص66) يحصر الشاعر نفسه في قفص من الأسئلة التي صار مكانها في الأرشيف الشعري حينما يقول (لماذا نضطر أن نلبس الأقنعة؟…… لماذا الكنايات في بابنا؟ ولماذا البلاغة في الأمتعة؟)!
يشتغل الشاعر على انزياحات مثمرة في القصيدة العمودية الرابعة (ضياعات)..( يصعد البحر عندها ويصلي.. ثمَّ يجثو على ذرى ركبتيها) (كبر الفجر فاستحال قميصا.. فصلته السماء ثوبا عليها) إلَّا أن الشكل العمودي يقتل هذه الثمرة من خلال قافية متهرئة قامت على تثنية المفردة قبل أن يضيف لها الضمير (ها)   الذي يكنى به عن المؤنث الغائب.. (ركبتيها، يديها، قدميها، عينيها…) الخطاب يتكرَّر في قصائد أخرى (تميمة ص78 و رباعية الحرب ص90) وفي هذه الأخيرة لم تتبلور عملية إزاحته للمدينة نحو تفاصيل روحه فبدت وكأنَّها مدينة نزار قباني التي شبعت من الحرب.. أما في (فرح ظامئ ص100) فإنَّ قراءتها تحيلنا تلقائياً إلى قصيدة مظفر النواب (تعلل فالهوى علل) نتيجة تشابه الوزن والقافية وكثير من المفردات، وقد ضمَّت صورة جميلة (فكُّوا ثياب القرى السمراء.. فارتجفت تلك القرى إن ثوبا غيره بدلُ) لكن هذه الومضة اختفت في ظلام الاسترسال البسيط الذي اكتنف ما تبقى من القصيدة.
أسئلة تقليدية

أما ما كتبه الشاعر في شكل قصيدة التفعيلة التي بدأها بقصيدة (آدم ص8) حاول الشاعر من خلال أسئلة موجهة إلى آدم أن يقودنا إلى عوالم آدمه فكانت السطحية في السؤال مرَّة حائلاً من دون ذلك  وخروجها عن سياق المعنى العام لقضية آدم مرَّة أخرى (هل كنتَ صبياً مثلي في يوم ما؟) ! (أبتي يا أبتي آدم.. ماذا أحسست وأنت تفتح عينيك لأول يوم…) إذا افترضنا إجابة بعيدا عن اللاهوتية فإنَّ آدم هو رمزية أسطورية غير محكوم بلحظة أو بآدم واحد، هذا ما هو متداول في الأقل.. وفي قصيدة (ملل ص12) يعرج الشاعر بطريقة شعرية على فكرة طوباوية- بدائية حول واقع الجنة الترفي الذي يقوده إلى المـلل (هكذا قيل خمره ونساء وفاكهة دانية….. وتشرب نفس الخمر وتفتض جارية كل يوم) قبل أن ينكر هذه الحياة لسبب بسيط كونه لم يتعوَّد عليها في الدنيا وانه أسير حياة البساطة!! (تعــوَّدت أن أعـمل الشاي وحدي وأغسل بعض الملابس وحدي) وينهي وفق افتراض فنتازي لا تستوعبه إرهاصات الشعر الرصين لأنَّه إذا كان يريدنا أن نؤولها إلى جنة أرضية فهو غير مجبر على العيش فيها (من يعيد لنا بيتنا وشوارعنا المتربة…)
وفي القصيدة التي تحمل المجموعة اسمها (جرَّة أسئلة ص22) وإذ نؤمن جدلا بمقولة (إنَّ كلَّ شيء قد قيل ولكن المهم كيف يقال) فإننا سنجد أن الشاعر يعيد ذات الخطاب والمفردات اللواتي أفقدت جرأة الفكرة قيمتها (سأعترف الآن أني كسرت على بابكم جرَّة الأسئلة.. ياه.. أشك وأؤمن ياه.. أشك وأؤمن.. أأنت هنا؟ أأنت هناك …) وبقيت هـي ذات الأسئلة التي كررها الكثيرون كفكـرة وكخطـاب. في قصيدة (انتظار ص32) يصر الشاعر على أسئلـته التقليديـة حـيث لا تعبّر عن انتماء جديد للمكان أو الزمان (من أنت عفوا أيها المنتظر؟) فضلا عن تكراره لجمل شعرية (غفت مدنٌ فيهم).. أما في قصيدة (اعتذار ص42) يعود إلينا بالسياق نفسه، فهو بعد رحلة العمر يريد أن يعتذر لجيرانه للأسباب الآتية: (نقول لجيراننا “آسفون” إن أطفالنا كسروا من زجاج نوافذكم.. إن أطفالنا أزعجوا نومكم في الظهيرة)! ولنفترض أن الشاعر أراد أن يشتغل على الدلالات الرمزية للمفردات (جيران، زجاج، جرس الباب) أليس حري به بناء جملة شعرية يمكن أن تستوعب هذا؟ ألا يفترض به وهو يحاول الولوج إلى شرايين المدينة العراقية هذه المدينة الحافلة بتناقضات شتى أن يترفع قليلا عن هذه الفكرة المستهلكة أو في الأقل عن لغة طرحها ( تجار العواصم يشربون نبيذها، هم يشربون ونحن نسكر).
وفي مهاو من نوع آخر يكتب الشاعر ما يبدو “قصيدة النثر” أو نصا مفتوحا، وإذ أسلّم أن هذا التنوع هو حق شرعي، يبقى التخصص يشكل مكمن قوة وما هو عكسه يحتاج إلى إمكانية عالية لم أجد لها أثرا في نثرية عارف الساعدي، ففي قصيدة (الصديق الوحيد ص46) (… كل مساء ..ولدي الصغير يصعد معي سيارتي.. يجلس في المقعد المجاور لي… نتحدث معا ..نضحك معا ونثرثر معا ). وتستمر القصيدة على هذه الوتيرة الا من صورة جميلة (أي طعم لهذه المدينة الحافية من ضحكاتهم..).. ولا يختلف الحال كثيرا في قصيدته (مرثية لصديق حي ص52) التي ينزلق فيها الشاعر إلى التكرار  أيضا (كنا نجوب الشوارع) وفي قصيدة (الصديق الوحيد ص46) يذكر (وكنا نجوب الشوارع) ويتكرر التكرار داخل القصيدة نفسها (لم تكن تكفي لأقدامنا.. درابينها ضيقة)! (وتكتظ هذه المحلة حين نسير بها…. وكانت محلتنا ضيقة) هذه الجمل المتشابهة شعريا تتكرر في قصيدة أخرى (مدن ضيقة ص108) إذ يقول (وأزقة هذا العالم تبدو ضيقة).
يبقى أن هذه المجموعة الشعرية (جرة أسئلة) فازت بالمركز الأول عن مسابقة جائزة الإبداع الشعري التي تنظمها وزارة الثقافة للعام 2014 ! اللجنة التحكيمية مطالبة – قبل غيرها- بمسؤولية الإجابة المُقنعة.

 

اترك ردا