3 - الصفحة الثقافية عام

بعض مشاكل الحداثة الشعرية

شغلت مسالة الغموض في الشعر مساحة واسعة من الدراسات الادبية، املاً في ان يكون الامر مفهوما من الجميع، أو في الاقل من المعنيين بالدرس الادبي. شخصيا، لا ارى ضرورة ان يكون مفهوما حد التبسيط. فمسائله طرحت في اكثـر من مناسبة واكثـر من زمن ومدرسة بدءا من منتصف القرن الثامن عشر أو بدء الرومانسية الاولى للاخوين شليغل وحتى يومنا هذا.

الاستاذ وليم اميسون (1906- 1984)، وهو استاذ ادب وشاعر، درس الغموض من خلال البنية الشعرية وتعدد دلالات المفردة وتحول المعنى بتحول نظام أو تركيب العبارة واسمى كتابه هذا “سبعة انماط من الغموض”.
على أهمية هذا الكتاب والجهد المبذول فيه، تظل المسألة في رأيي تتجاوز البنية الشعرية والتركيب اللغوي إلى مدى اخر يتصل بجوهر الشعر مقرونا بتحولات الواقع اليومي أو المعيش.
اللغة في بداياتها كانت رموزا. ولهذا يمكن القول كانوا كلهم شعراء لان المفردة كانت اشارة، كانت رمزا والعالم الشعري، البدئي، كان مشاعا.
التطور العقلي منع الناس من التماس الواسع، الذي كان، مع الشعر. كان هناك تبادل مفتوح بين الشاعر والكون والناس غير محجوزين عنه. التطور العقلي تحكم بالدلالة. قنَّنها، ابعدها وابعد الرؤية عن الفاتنازيا الكونية. صارت اللغة لغة واقع محسوس وحياة تتحكم فيها الدلالات المحددة. صرنا امام ثبات، أو أُلفة المعنى.
يظل الشعر حيا، مهما تعقدت الحياة وتعقدت الحواجز عن الحدس. اقول يظل الشعر يتخلل العالم. لكن المهمة الصعبة، هي كيف الاتيان به. وهنا لابد من ايضاح.
ان الرؤية الشعرية اليوم ليست التي يلزمنا بها الواقع ويلزمها. انها تلك التي لا حدود لتاويلها. والطموح للوصول إلى رؤية كهذه يتناقض والمدى الذي يسمح به الواقع الجديد بلغته التي فقدت سعتها الاشارية. نحن اليوم ندرك، ان الشعر مبثوث في العالم، في الكون وعلى الشاعر الاتيان به ووضعه على مساحة بيضاء، اسمها الورقة.
اوصلنا هذا كون القصيدة فردية فصارت تتحدث عن الكون من خلال الذات. هو في الحقيقة توجه أو تعبير عن الذات إلى الكون! ولذلك افتقدنا التصورات الشاسعة والعديدة للعالم. هذا الاتجاه منح الشاعر امتيازا جديدا لكنه ضيق عدد التصورات والادراكات ذات المساس بالكون وتقلصت مساحة الحدس الاولى. اختفى الفجر الاول.
ثقافة شعرية مثل هذه التي اقول بها وتحولات مثل هذه تهم الشعراء، اصحاب الهم الشعري، المتواصلين، وهم يكتبون عن الذات، بالكون وبروقة الشعرية. هي لا تعني النظّامين والخطباء. نتاجات اولاء محدود البعد. هي نتاجات بسيطة واعتيادية لا تختلف عن السباب الطريف والحكايا والشان اليومي، مما في السوق والشارع واشكالات العيش والهجاء السياسي.. هذه آمادها محدودة وعلاقتها لا تبتعد كثيرا عما نراه ونسمعه كل يوم. ولذلك هم غير معنيين بثقافة جوهرية عن الشعر مثل هذه. كلامي هذا ليس ادانةً قدرَ ما هو توصيف علمي.
توسع النظر للتاريخ الادبي في العالم، اشعرنا بنوع من الحسد للبدائي، لسعة ما كان يراه من الكون صافيا. رموز القدامى على الجدران ما تزال في تماس مع الكون ومعنا. السبب انها جميعا، في الامكنة المختلفة والفترات الزمنية المختلفة، كانت تنمو عضويا وتقترب من بعضها لتشكل عالما شعريا، واحدها غير منطقع الصلة عن الكل. الرمز فيها واسع الدلالة متعدد الابعاد وهو ما يزال حيا!
الانغلاق على الذات أو الاهتمام الشديد بها كان في البدء امتيازا. هو في اجواء الضغط الكلي للواقع ومضمون العصر العلمي، والآلي، فتح ممرا للذات. اضاء مناطق مهملة تستنجد بنا. لكن شدة الاهتمام هذه إلى درجة الانغلاق على الذات، ابعدنا عن الكون الشعري الاول. وهكذا هي الحلول، صعبة دائما ودائما تترك وراءنا خسارة وخسارتنا الان مزية شعرية نرى ضرورة استمرارها معنا!
اذن نشأ الغموض الاول لا من تركيب العبارة و اختلاط الدلالات أو تعدد معاني المفردة كما ارتاى استاذنا وليم امبسون في انماط الغموض. الغموض حصل في افتقاد العالم الشعري المشترك وابقى الواقع اليومي الذي اكتفى به الخطباء او الشعراء الثانويون. التطور الحضاري، الذي ادار العين الثاقبة الى الذات، اوجَدَ إشكالا اخر صعبا، هو العزلة الشعرية بعد الابتعاد عن الكون الاشاراتي البدئي الذي كان للجميع. الشاعر اليوم يجهد في العزلة، في وحشته الخاصة، ليطلق ومْضاً، في محاولة مجيدة للانتصار على الإشكال الجديد أو الحاجز. وحين يردد الشعراء الكبار كلمة “منفى” فهم يقصدون تماما ما هم فيه!

اترك ردا