عام فنون ومسرح

المسرحية التي تحدثت لكل شيء..”الحقائب السود”.. خيال الظل الذي يُرقّص أحزاننا ويكشف هزائمنا

تبدأ مسرحية “الحقائب السود” بمعاندة الواقع حيث تبدا الحركات الراقصة التي تعتمد في ظاهرها على الظل..فيكون المشاهد لها منتظرا ما سيتم اخراجه من الظل والشاشة البيضاء التي تحولت الى بانتومايم مسرحي الا ان شيئا من ذلك لم يحصل.
مسرحية “الحقائب السود” لا تشي بانها مسرحية لحظة دخول المشاهد الى المسرح منتظرا بدء العرض لان لا شيء على المسرح سوى شاشة بيضاء كبيرة وضعت في منتصف المسرح..حتى يخيل للمتلقي انه ربما سيكون هناك ديكور يختفي خلف الشاشة او ان ديكورا اخر سيتحرك ويأتي أو ينزل من الاعلى..لكن العرض المسرحي كان فقط شاشة امام الجمهور الذي ربما بدا غير متفاعل مع ادوات العرض التي تعود عليها من ان هناك ديكورا وتهيؤا لدخول اول ممثل والبدء بالتصفيق له.

 المخرج علي العبادي ، وهو مؤلف المسرحية ايضا أطاح بكل هذه الثوابت وتركنا ننتظر ما ذا سياتي بعد الشاشة..وماذا سيأتي بعد المسرحية التي فاجأت الجمهور بانها قدمت له ما لم يقدمه عرض اخر حين فكك علاقاته الاجتماعية وجعله يصمت طوال اكثر من 40 دقيقة بل ان البعض من الجمهور ذرفت دموعه..
مسرحية “الحقائب السود” ربما هي الاولى من نوعها تأليفا وعرضا وإخراجا تقدم البانتومايم التي ستخدم جهاز الداتشو مع حركة الظل عبر ممثلين يتحركون خلفها ..دون ان يسمع الجمهور كلمة واحدة لكنه استمع الى كل شيء حتى يمكن القول انها مسرحية قالت اي شيء يريده الجمهور دون ان تنطق بحرف واحد..فنجح المؤلف تماما في استمالة رؤية المشاهد وتغيير بوصلة التلقي من مواجهة الجمهور الى مواجهة شاشة ربما تصور البعض انها ستكون عاملا مساعدا للإتيان بما يمكن ان يساعد المؤلف او الرؤية الاخراجية على قول شيء اخر غير ما يقوله الممثلون .. او انها شاشة سينمائية ربما تقدم لهم عرضا مصورا في ظل ظروف للشباب لم يجدوا حتى مكانا للتدريب ، وكان المكان للعرض في قصر الثقافة وكانت كل الاشياء من اموالهم الخاصة ولم يثنهم حب الفن على طرح الافكار الكبيرة.
اعتمدت المسرحية كما يقول مؤلفها ومخرجها على نص للشاعر أديب كمال الدين وهي حسنة اخرى تحسب للمؤلف لأنه تمكن من تحويل نص شعري الى ماكنة مسرحية قابلة للتأويل .. ولكنه نص حركي بلا حروف راقص بلا اشخاص..ضوء بلا نور..لان الحياة التي حولنا ظلمة ومظلمة وهي رسالة اولى تحملها المسرحية..
المسرحية بدأت بان المواطن العراقي يتقلب ويكتوي ويحترق ويفرح ويصفق بالمقلوب ..شخصيتان من ظل تتحركان على انهما شخصية واحدة وهي رسالة اخرى ان المواطن ليس فردا في المجتمع يمكنه ان يتحرك كما يريد بل انه متشظٍ وهو ما فعلته الفكرة بعد ذلك حين تشظت هذه الشخصيات الى عدد آخر..من خلال حركة شخوص تنقل الحقائب المثقلة بالهموم لتسافر هاربة من جور الظلمة والاستلاب..تنظر الى سكة القطار على انها المنقذة لما تم سلبه من الحياة بدءا من روح الطفولة التي مثلتها اعادة الى واقع الطفولة في المدرسة وكيف كان يلهو / يلهوان في مطلع العمر. لكن الحرب قتلت الطفولة ودمرت المدرسة فضاع التركيز على التطلع الى مستقبل..ولان السفر مغادرة كل شيء بدءا من الجمال فانه ايضا محفوف بالمخاطر حين يبدأ اللصوص بسرقة كل شيء ثمين من كنوز في هذه الحقائب..
الخطوط العامة للمسرحية اتخذت عددا من الصور الحركية فيما يطلق عليه (مايم خيال الظل) ، اما المايم فهو تقريبا حركات عادية..كانت الحقائب الست هي المحرك الاساس لروح المسرحية وهي العنوان الاعلى لعنوانها حتى إذا ما انتهى مقطع ليبدأ مقطع آخر من النص المسرحي المتحرك سينمائيا كانت النهاية دائما هي وضع الراس داخل الحقيبة..فكان العرض يتنقل بالمتلقي/ المشاهد/ المشارك / المنتظر/ المندهش الى مجالات اخرى بانتظار ما تسفر عنه هذه الشاشة وما يبرز بعدها..لكنه كان يبرع في ادخالنا في الظل لنرى الظلمة التي حولنا..خاصة وانه ،اي المشاهد، استند على ان العرض الذي امامه انتج من لا شيء فلم يبحث عن خصوصية التلقي المنهجي والعلمي للعروض المسرحيبة ولم يبحث عن أجساد رياضية تقوم بالحركات الراقصة خاصة وان الكثير من الممثلين كانوا قادرين على حساب الخطوات في عمق المسرح المختفي والاقتراب بجهد محسوب الى مقدمة المسرح الموازية لوضع الشاشة البيضاء التي عدت شاشة سينمائية عرضت عليها لقطات داتوشب لحركة المياه والقطار الذي غادر قبل ان يصل المهموم بحقائب السفر..لذا فان الحرب كانت علامة أخرى حين ارتدى ثلاثة ابطال خوذا ليمنحوا الذاكرة المعطوبة بالحرب اشلاءها المبعثرة في ساحات الحرب وهم يلمون ما تعرضه الشاشة من آلاف المقابر والخوذ والبساطيل وآثار الطين المتيبس ..لكن الاكثر قدرة على المواءمة والتماهي والالتصاق المشهد الذي يزلزل الكيان او المشهدين الكبيرين الجريئين حين تتدلى المسبحات الطوال من اعلى الشاشة وأيضا تتدلى من يد الممثلين فيما كانت هناك سبحة اخرى تتحرك من خلف الكواليس لتعلن ان جميع هذه المسبحات تحولت الى مشانق وهي اشارة الى استغلال الدين في قتل الانسان . فيما كان المشهد الثاني دليلا على التخبط السياسي..حين تكثر الانفجارات ويتصارع السياسيون على الاعلام للخطابة والحديث والتهور ليبقى الوطن مشتعلا وتبقى الحقائب سودا في اعين الناس التي تحترق.
المسرحية معالجة راسية للحياة العراقية ولم تأخذ مسقطا افقيا لها فكان مميزا فيها المؤلف الذي حول قصيدة من كلمات الى لوحات من جمال انارت الظل الذي تحرك فينا واعدنا نحن الذين ارتدينا الحروب منذ عقود لنكون بين اتونها..حتى إذا ما دخلت الرؤوس في الحقائب كان لابد ان يحضر التابوت الذي يحمله الساسة مرة ومستغلي الدين مرة اخرى . لكن ، وبحركة رائعة ترك العبادي التابوت غير مستقر مثل كفتي ميزان تتأرجحان باحتشاد الظلم وما يمكن ان يجعل كفتي التابوت متساويتين في الحركة ومتقابلتين في الاتجاه مع البساطيل التي اعطانا اياها كرمز على ان الحرب مستمرة وان الموت مستمر ما دام ما نحمله هو كل هذا السواد الذي يأتي به الطغاة.
لم يشأ العبادي ان ينهي المسرحية بالقاء التحية من الممثلين بل ابقاهم خلف الشاشة يحيون الجمهور بطريقة الوداع أيضا وكان الجمهور يصفق وكأنه يراهم / يرى نفسه المعلقة ببارود الحروب.
والأجمل انهم حين خرجوا كانوا يحملون العلم العراقي فهو الهم الأوحد لهم/ لنا.,.
انها مسرحية نطقت من كل شيء لكل شيء دون كلام وهي مسرحية تستحق ان تعرض على مسارح بغداد وان تحصل على دعم لكي يتم تفادي الهفوات التي حصلت فيها من تقنيات الاضاءة خاصة وان كواليس المسرح رغم فقر اداوتها تحولت الى ورشة كبيرة امتدت لها ايدي شباب يحبون الجمال والبلاد.
يبقى ان نقول ان الممثلين هم امير العبيدي وصفاء إسماعيل وعلي العبادي وحيدر الهلالي . اما الفنيون في تصميم وتنفيذ الموسيقى التصويرية والمؤثرات الصوتية : غزوان السعيدي وتصميم وتنفيذ الفيديو حسن كريم، فيما كانت إدارة المسرحية لأحمد العربي.

اترك ردا