3 - الصفحة الثقافية عام

إنعام كجة جي.. الحفيدة الأميركية تصف نفسها..أخرسٌ يمضي من ليس له وطن

الصدفة وحدها جعلتني اقرأ رواية «طشاري» قبل «الحفيدة الأمريكية» ومع ملاحظتي المركزية حول البناء السردي ، وتباين الموضوع ، وتعدد الشخوص واتساع الزمن في الوحدات السردية الرئيسة ، وجدت بأن أنعام كجة جي منغمسة بالذاكرة وابتكار آليات استعادتها بما ينسجم مع البؤرة السردية في عملها الروائي . ويبدو لي بأن الحفيدة الأمريكية ، أضاءت مجالاً عاماً وفاعلاً في تصورات الروائية وهي العلاقة مع الذاكرة والتاريخ والتنويع عليهما .واتضح بأن «الحفيدة الأمريكية»، أكثـر تمركزاً حول ذلك ، بحيث اشتغلت الرواية على الجدة «رحمة» ، دالة على عمق الذاكرة وصفاء التاريخ والحفر وراء موتيفات بسيطة ، لكنها تومئ لما هو جوهري ، واعني العلاقة مع المكان واستحضار سرديات مسموعة / منقولة عن أهلها ، جعلت منها شابة منتمية لمكانها .
المثير للدهشة والانتباه ، هو دقة أنعام وقصديتها في إشاعة الطاقة الشعرية في سردها لمرويات مضت وظلت مهيمنة بذاكرة « زين ، زينة ، زنوبة / استعادتها اعترافا بالتشكيلات الثقافية المبكرة ، التي كانت الطفولة ومردداتها ابرز تلك المرويات . وقد احتلت هذه مكاناً هو الاستهلال في الرواية ، إذا شطبنا الفصل الأول الذي ختمت به الرواية ، وجعلته استهلالا ، مانحة هذه التجربة ميزة أن تكون البداية ، هي نهاية العمل الروائي .
سرديات العائلة / تاريخها المضيء / المشرق الذي تم نخله من بين سرديات غفيرة وظلت الحكايات الممجدة للعائلة . ليس هذا فقط ، بل لوضع الحفيدة الامريكية امام قوة التقاليد الموروثة والآتية من عمق المسيحية أو روح الأشورية . ولان أنعام كجة جي ، فنانه مرهفة ، ذهبت نحو حشد علاماتي ، لترسم عبره عن صراع خفي ودفين ، بين الحاضر والماضي ، ولم تكن الجدة رحمة مغالية بل موضوعية عند استحضارها للتاريخ ، ظلت قيمه تستعاد سردياً .
« هل نسيت يا زينة ؟ اليوم ستة كانون الثاني … عيد الجيش . فهمت ما كانت تؤديه من طقوس . الم يواصل جدي يوسف الاحتفال بهذا العيد ، على طريقته ، بعد أن طردوه من الجيش / ص90/ ظلت الحفيدة الأمريكية منشطرة بين أصولها وما اكتسبته من أميركا ، واحتدم الصراع الداخلي قوياً وعسيراً ، ولم تستطع منذ لحظة اللقاء الأول مع الجدة رحمة ، حسم الأمر واتخاذ قرار نهائي الا بعد عذاب مرير وجدل معقد . ولم تتمكن الخلاص من تراكماتها الثقافية وانشدادها لمرآة المرايا . ويعمق السرد الشفاف ثنائية العلاقة بين الحفيدة الأمريكية والجدة التي تحولت صوتاً أو ضميراً حيا للعائلة ولأصلها . وازدادت الفجوة وأدركت «زين» استحالة إرضاء الجدة ، كما اقتربت هي أكثر فأكثر منها ، واستطاعت قراءة ملامحها وفك شفرات كلامها المجازي والغوص في أعماقها ، وصار بعضها مؤثراً عليها .
ـ سحبت العجوز رأسها من فوق صدر زينة وتطلعت إليها باستهجان ـ لا تتفوهي بمثل هذا الكلام في الغرفة التي اسلم فيها جدك الروح احترمي ذكراه على الأقل .
ـ هنا مات
ـ هنا فوق هذا السرير … كانت نعمة ربانية أن يموت قبل أن يرى الاحتلال ويراك
لم تر زينة دمعة العجوز في القمة ، لكنها شمتّ رائحتها ، شاهدت صوت جدتها شاحباً ومتهدجاً / ص115//
يبدو لي بأن أنعام كجي جي عرفت جيداً المنفى واكتشفت أسراره وقرأت عن فلسفة الأنا والآخر ، لذا تلمست أهم المراكز الثقافية والفكرية التي اشتغل عليها لينفناس المفكر الفرنسي المنشغل طويلاً بالهوية وأشكالها ، من خلال الأنا والآخر ووظفت أنعام أهم المجالات في معرفته وهو الاستبدال والذي ابتدأ بسيطاً وتنامى شيئاً فشيئاً حتى يحقق وكانت زينة ، زين ، متحولة من هويتها الثانية لتحط تماماً في مكان جدتها وتحقق الاستبدال الذي نما وتحقق عنصراً بنائياً مهماً في هذه الرواية .
أقول مثل أبي : شُلت يميني اذا نسيتك يا بغداد / ص195/
البدلة العسكرية دلالة على زمن الجماعات العسكرية المنضبطة والمندمجة مهنياً ، والملتزمة بأصول النظام . وتكرر الإشارة لها تأثير ، خصوصاً تنظيف نجومها وتلميعها وكأنه بانتظار حلم قريب ، وأيضا إنقاذ الجيش مما تراكم عليه . وارتداء زين / زينة بدلة يوسف الساعور ينطوي على قبول له ولتاريخه ، حتى العسكري ، وبذلك تماثلت معه على الرغم من تباين النوع ، اعني التماهي مع روح الجماعة العسكرية ، والحلول الثقافي فيها . وهنا تحقق الاستبدال الأخر .
المكان / العراق أو البيت وحديقته وذاكرته ، منح البساطة طاقة رمزية ، ونشطت العلامات ، وانفتحت أمام القراءة وحدة السرديات غير تقليدية . في البداية ختام كل شيء . والصورة هي الفاعل / الحاضر ( دمعت عيناها وأنا أمدُّ يدي لها بالثمرتين الصفراويين اللتين قطفتهما من حديقة البيت الكبير الذي أمضت شبابها فيه . أخذت النوميتين بكلتا يديها وتنشقتهما بعمق وكأنها تشمُّ مسبحة أبيها وحليب أمها وعمرها الماضي . حياة مغدورة تكورت . في ليمونتين ص/10 / كتبت الحفيدة الأمريكية وأية دخولها للعراق مع قوات الاحتلال ، ولم تسمح للكاتبة القرينة لها أن تزيّف ما عرفته ، وما الذي حصل لها ؟ فالمكان المتنوع يشف عن شعرية بالمقدار الذي استطاعت فيه الرؤية بصفاء ( ليس الألم هو البطل ، بل الإذلال ) لم يكن الوضع في الموصل أفضل … أهذه هي المدينة التي يرن عند ذكر اسمها … مدينة أجدادي ص150.

اترك ردا