3 - الصفحة الثقافية عام

اسباب ضمور الأدب العربي عالميا بين الذات والآخر

في مثل هذا الفصل من كل عام، يحمى الجدل حول موقع الأدب العربي من الخارطة العالمية، والمناسبة طبعا هي جائزة نوبل التي يفترض أنها تكافئ الكاتب الأكثر تميزا على الصعيد العالمي، وينقسم المتجادلون عادة إلى فريقين: فريق يسلق اللجنة المانحة بألسنة حِداد، بدعوى أنها جانبت الصواب في اختيارها حين تغاضت عن هذا المرشح العربي أو ذاك وممن لهم في ساحتنا قامة شامخة.
وفريق يجد في إخفاقنا فرصة أخرى يفضح من خلالها قصور أدبنا وضحالة فكرنا وجهل شعوبنا، وما إلى ذلك من مفردات جلد الذات التي تعوّدنا عليها منذ هزيمة يونيو 1967.
لسنا هنا في معرض الحديث عن جائزة نوبل، لأنها، كما قال النمساوي بيتر هندكه، كذبة كبرى، وإن كان لها الفضل في تسليط الضوء على كتاب مغمورين خارج بلدانهم مثل النيجيري وولي سوينكا والبولندية فيسلافا شمبورسكا والصيني غاو سنغجيان على سبيل الذكر لا الحصر، ولا يمكن بالتالي أن نضعها مقياسا نقيس به أدبنا العربي شعرا ونثرا، فكم من كاتب منحت له وبقي دون من لم يحوزوها شهرة، كذا جوزيف برودسكي وشاوول بيلّو وكاميلو خوسي ثيلا وتوماس ترانسترومر، وإنما غايتنا تلمّس الأسباب التي جعلت الأدب العربي ضامر الحضور في خارطة الآداب العالمية.

الأورفونية المنتصرة

هل ضمور الأدب العربي متأت من عوامل خارجية معادية، أم هو ناتج عن قصور هذا الأدب نفسه عن الانخراط في الحداثة، وعجزه عن مخاطبة الآخر بلغة العصر، والارتقاء بالمحلي إلى الإنساني الكوني، أم هو ناجم عن غياب سياسة ثقافية متكاملة تسهر على ترويج الكتاب في الداخل والخارج، أم هو في النهاية صورة عن حال العرب ووزنهم في الساحة الدولية؟

الأدب العربي يعاني من ظروف سياسية واقتصادية لا تزال تنتمي إلى العالم الثالث، رغم الجهود المبذولة للأخذ بأسباب الحداثة
يخطئ من يعزو عدم انتشار أدبنا إلى الصراع العربي الإسرائيلي، فمحمود درويش مثلا هو أكثر الشعراء العرب حضورا في فرنسا حتى بعد رحيله، رغم تصنيف النقاد له بكونه “صوت فلسطين”، وبعض الناشرين لا يجدون غضاضة في ترجمة بعض أعمال للكتاب الفلسطينيين مثل غسان كنفاني وجبرا وإميل حبيبي وإبراهيم نصرالله وسحر خليفة وسواهم.

والحائل ليس “لوبي” صهيونيا معاديا ولا دعاةَ صدام الحضارات، بل ما سماه الكاتب الأنتيلي رفائيل كونفيان “الأوروفونية المنتصرة”، أي هيمنة اللغات الأوروبية على الفضاء الأدبي العالمي، حيث الأولوية لآداب الغرب، ثم الآداب الناطقة بلغاته، ثم الآداب المنقولة إليها في شيء من التقتير.
في كتابها “الجمهورية العالمية للآداب” تبيّن الباحثة باسكال كازانوفا أن “رأس المال الأدبي” موزع بطريقة غير عادلة بين الأمم، فالآداب الأوروبية تشكلت منذ عصر النهضة حول باريس كمركز لآداب الدول الأوروبية الكبرى، ثم تلتها آداب الدول الصغرى في أواخر القرن التاسع عشر، قبل أن تظهر في القرن العشرين آداب أمم أخرى غير أوروبية، خصوصا في المستعمرات القديمة، ولكنها ناطقة بلغات أوروبية مثل الإسبانية والبرتغالية في أميركا اللاتينية، أو الفرنسية في إفريقيا وجزر البحر الكاريبي والوطن العربي، أو الأنكليزية في ثلاث قارات هي أميركا وأفريقيا وآسيا.

ظروف الأدب العربي

بعض الناشرين لا يجدون غضاضة في ترجمة بعض أعمال للكتاب الفلسطينيين مثل غسان كنفاني
غابت عن المشهد العالمي كل الآداب الناطقة بلغات قومها حتى أواسط القرن الماضي، حيث بدأ الأدب الياباني يخرق تلك القاعدة، ثم تلاه منذ الثمانينات الأدب الصيني ثم الكوري الجنوبي. وهي آداب لم تخضع شعوبها طويلا للاستعمار ولا للغة كولونيالية مفروضة، واستفادت من النمو الاقتصادي الهائل الذي بلغته لتحديث آدابها باستعمال لغاتها القومية وحدها، ما حدا ببعض النقاد إلى الربط بين القوة الاقتصادية والقوة الأدبية لدى تلك الأمم الثلاث.

أما الأدب العربي فقد ظلت محاولات انخراطه في الفضاء العالمي تصطدم بعائقين: أولهما أنه وجد في ظروف سياسية واقتصادية لا تزال تنتمي إلى العالم الثالث، رغم الجهود المبذولة طوال القرن العشرين للأخذ بأسباب الحداثة وتطوير أشكاله ومضامينه. وثانيهما المزاحمة التي يلقاها داخل فضائه الجغرافي من الإنتاج الناطق بلغات المستعمرين القدامى، الفرنسية والأنكليزية بخاصة، ليس من الجاليات العربية المهاجرة وحدها، بل من شريحة من الكتاب ما فتئت تتسع، خصوصا في بلدان المغرب العربي وفي لبنان، وإن بدرجة أقل. منهم من داوم النشر في فرنسا وهم قلة، ومنهم من ينشر إنتاجه في بلاده.

ومن ثَمّ كانت الأسماء العربية المتداولة -بدرجات من الأهمية متفاوتة- في الساحة العالمية منذ القرن الماضي هي تلك التي تتوسل بلغة المستعمر، بدءا بمن عاشوا الاستعمار مثل مالك حداد وكاتب ياسين ومحمد ديب ومولود فرعون وإدريس الشرايبي وعبدالكبير الخطيبي وألبير مِمّي وسواهم، وصولا إلى جيل الاستقلال وما بعده مثل طاهر بن جلون وعبداللطيف اللعبي ومحمد خيرالدين ورشيد ميموني ومصطفى التليلي. هؤلاء الناطقون باللغات الأجنبية هم الذين يُدرَجون عادة في قوائم الكتاب العرب، ومن النادر أن نجد في تلك القوائم كاتبا عربيّ اللسان باستثناء نجيب محفوظ ثمّ علاء الأسواني في الأعوام الأخيرة.

أي أن من يريد تسجيل حضوره في الفضاء العالمي، يُفترض أن يكتب بالفرنسية أو الأنكليزية مباشرة أو أن يترجم إلى إحدى هاتين اللغتين، ليس لأن الترجمة مفتاح لولوج الأسواق الفرنسية والأنكليزية فحسب، وإنما أيضا لأنها سبيل لنقلها إلى اللغات الأخرى عبر العالم. والمعروف أن أعضاء الأكاديمية السويدية غالبا ما يعتمدون في اختيارهم مرشحي جائزة نوبل على الترجمات الفرنسية والأنكليزية بالدرجة الأولى.

ولما كانت النسبة التي يخصصها الناشرون للأدب المترجم عامة ضعيفة، تتراوح بين 15 و20 بالمئة في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا، وبين 3 و5 بالمئة فقط في بريطانيا والولايات المتحدة، فإن نصيب الأدب العربي برمته من تلك النسب محدود جدا. أي أن الوصول إلى العالمية يمرّ حتما عبر الترجمة، ولكن أبواب الترجمة موصدة أو تكاد، لا ينفذ منها إلا القليل. فهذا القليل الذي ينفذ، ممّ يتألف؟ وما هي شروط انتقائه؟

إن من يراجع قوائم الكتب العربية المترجمة حتى الآن يلاحظ بيسر جمعَها بين المشهورين والمغمورين، بين من امتلك في ساحتنا أحقية الحضور بأعمال جليلة وتجارب جادّة، ومن لا يزال مجهولا حتى بعد الترجمة. بل إن المتابع لما تنشره الدور الفرنسية اليوم من أعمال عربية مترجمة، مثل آكت سود وسوي ولارماتان، يستوقفه احتضانها أعمال كتاب غير وازنين في الساحة العربية، خاملي الذكر حتى في أقطارهم، أو شبان لم ينشروا أحيانا سوى عمل وحيد، لا تتوافر فيه القيم الجمالية التي تؤهله للمروق من تلك الفجوة الضيقة المفتوحة للأدب العربي.

السوق الأوروبية الأميركية لا تزال تنتقي الكتاب العرب، الذين تجد فيهم قيمها الأخلاقية والسياسية
والسبب أن الاختيار، إذا استثنينا المحاباة والعلاقات الخاصة، يخضع لمنطق السوق، فلا يترجم عادة إلا ما يلبّي أفق انتظار القارئ الغربي، بصرف النظر عن الموقع الذي يشغله صاحب النص في أدب أمته. تقول هيدي فارنيكه من دار غراسيه في تحقيق لمجلة لكبريس الفرنسية عن معرض فرانكفورت في دورته الأخيرة “إن كبار الناشرين في العالم يبحثون كلهم عن الكتاب الذي يباع. إنه عصر الـfeel good litterature”.

وتذكّر بما لقيه الأدب الفرنسي نفسه من كساد في الأعوام التي شهدت ظهور الرواية الجديدة والنصوص التجريبية أو الموغلة في السير ذاتية، وقلة إقبال الناشرين الأوروبيين والأنكلوساكسون عليه. ولم يشفع لكلود سيمون مثلا فوزه بنوبل، فقد ظلت آثاره محدودة الانتشار حتى في فرنسا ذاتها.

الأدب المهمش

ورغم تزايد الاهتمام نسبيا بالأدب العربي منذ فوز محفوظ بجائزة نوبل وانفتاح دور النشر الغربية على آداب الأطراف، ظل موقع هذا الأدب في الأسواق العالمية مهمّشا، سواء من جهة نسبته في السوق، حيث لا تتعدّى مبيعات دار آكت سود الفرنسية، أكبر ناشر للأدب العربي المترجم، ألفي نسخة للكتاب الواحد، أو من جهة الاعتراف الرمزي بقيمته، إذ لا يحتفي المتلقي بالبعد الجمالي للعمل الفني، بقدر ما يهتمّ بالبعد التوثيقي والسياسي والصوت المندّد بالحكام، الساخر من عيوب المجتمعات العربية.

“فالسوق الأوروبية الأميركية -كما يقول ريشار جاكموند أستاذ الأدب المقارن بجامعة بروفانس- لا تزال تنتقي الكتاب العرب الذين تجد فيهم قيمها الأخلاقية والسياسية والجمالية، وتَمثُّلها الخاص للشرق”.

وهذا ما يفسر احتفاء الغرب مثلا بـ”عمارة يعقوبيان” رواية الأسواني التي بيعت منها مائتا ألف نسخة، وأعيد طبعها في سلسلة كتاب الجيب، وعُدّت “بيست سيلر”، مثلما وُصف مؤلفها بأعظم كاتب عربي في الوقت الحاضر، والحال أنها رواية ذات بنية كلاسيكية بسيطة ولغة متواضعة، لا ترقى إلى روايات محفوظ الواقعية، ولا تبلغ مستوى ما يكتب اليوم من روايات في الوطن العربي مشرقا ومغربا.

العيب ليس في الأدب العربي من حيث نضجه الفني وعمق مضمونه، بل في ترجمته ونشره وتوزيعه
ولكنها، إذ تقدم مساوئ المجتمع المصري في عهد مبارك، وتحنّ إلى الزمن الكولونيالي، تثبّت الصورة التي رسمها الغرب عنا، وتلبي أفق انتظار القارئ في مجتمعاته. بعبارة أخرى، لا يُقدِم الناشر الغربي عادة إلّا على ترجمة ما يكون “صالحا للتصدير”، بصرف النظر عن موقع الكاتب في خارطة الأدب العربي، وقيمة أثره الفنية.

وكان من نتيجة ذلك تنامي التيار المنبهر بالرواية الغربية، الذي يرى أن الشكل الغربي للرواية هو الشكل العالمي الذي ينبغي الاحتذاء به. ووجدنا في الأعوام الأخيرة من صار يكتب وفق تلك المعايير، بلغة جافة، وواقعية فجة، لعله يحظى بالترجمة، فيفرض بواسطتها حضورا ظل يتمنع عليه.

وهذا أخطر من تغاضي الناشر الغربي عن ترجمة أدبنا، لأنه لا يخضع أدبنا لقوالب محددة فحسب، بل يعيد ترتيب طبقات الأدباء، فيصبح الكبار ممن لم تحظ آثارهم بالترجمة غير ذوي شأن، فيما يحتل الصغار الذين تترجم كتبهم مكانة بين الـ”عالميين”.

وقد قرأنا أخيرا مقالا ينوّه بدخول أحد الكتّاب العرب مصاف العالمية لمجرّد نشر ترجمة لرواية له في دار لارماتان الباريسية، وهي دار يُعرف عنها أنها لا توزّع ولا تدفع حقوق تأليف، وأن ما تنشره، موضوعا أو مترجما، يقتنيه في الغالب المؤلف نفسه.

وصفوة القول إن العيب ليس في أدبنا من حيث نضجه الفني وعمق مضمونه وبعده الإنساني، بل العيب في طرق نشره وتوزيعه، والتغيّب عن المعارض العالمية الكبرى للتعريف بعيونه ومستجداته وأعلامه.

فلا يمكن اقتحام مراكز القوى العالمية المهيمنة إلا بتضافر الجهود عربيا لرسم سياسة ثقافية فاعلة تبلغ أصوات المبدعين وأعمالهم إلى القارئ الأجنبي حيثما كان، باللغات الحية كافة، حتى تفرض حضورها في الأذهان، كقيم رمزية، قبل أن تفرضه على لجنة نوبل وسواها.

اترك ردا