7 - تقارير وتحقيقات عام

نهج امريكي لا ديمقراطي حفاظاً على المصالح

على رغم ان الولايات المتحدة تقول انها تسعى الى نشر الديمقراطيات في العالم، ولاسيما في الشرق الأوسط، الا انها تعمل بشكل غير ديموقراطي، وهو ما اثبتته الاحداث في العراق منذ 2003، واكدته مواقفها من ايران، وعلاقاتها المحابية للأنظمة القبلية والعائلية والدكتاتورية في الخليج ومنطقة الشرق الأوسط.

فبحسب تقرير  من “مركز الدراسات الاستراتيجية التابع لمجمع تشخيص مصلحة النظام في ايران”، وكتبه سيد جواد طاهايي، فأن الولايات المتحدة مضطرة على أن تعمل بشكل غير ديموقراطي في الشرق الاوسط، وما عدى ذلك سوف تواجه مؤسساتها، ومصالحها، وقيمها الداخلية أزمة خطيرة. عندما يتحدث الساسة الامريكيون بكل صرامة وحدية عن مصالحهم خارج الولايات المتحدة، يتبين أن هناك علاقة وطيدة بين المصالح الخارجية لدولة غربية عظمى وبرامجها المدنية والديموقراطية في داخل تلك الدولة. ولكن خلافاٌ للولايات المتحدة التي هي مُضطرة الى أن تعمل، عكس سياساتها الديموقراطية الداخلية، بعقلية الهيمنة والسيطرة لا بعقلية الديموقراطية، في سياستها الخارجية لاسيما في منطقة الشرق الاوسط والمناطق القريبة إلى إيران، إلا أنه يتحتم على ايران أن تلتزم الديموقراطية في سياستها الخارجية تجاه هذه المنطقة والمناطق الاخرى المحيطة بها. اذا ما الذي يعنيه هذا الاختلاف؟ وكيف تستطيع ايران أن تلتزم الديموقراطية في سياساتها الخارجية في المناطق القريبة منها؟.

ان السلم في مفهومه الكلاسيكي و الأصيل هو شيء لا يحصل عن طريق تخطيط السياسات الخارجية للدول، والسلم استراتيجيات القوة؛ بل هو محصلة لتاريخ طويل من التعايش والتفاهمات العفوية بين الاقوام. ولا يتم صناعته بواسطة الدول بل يتم ذلك على يد المجتمعات. وفي هذه الحالة تكون مسؤولية الدول ودورها حماية السلام وتقويته و ليس خلقه.فالدول تقوي السلام أو تقوضه.

وعلى الرغم من هذا الواقع في السياسة الخارجية الامريكية فإنها تسعى دائماً الى ايجاد السلم عن طريق تخطيطاتها ؛ لكن على أرض الواقع ما يتم صناعته يكون الاستقرار و الانضباط المفروض و ليس السلم. في حين أن إيران على العكس من هذه الحالة، بلحاظ مرجعيتها الثقافية ـ النفسية في الاقليم، فهي تتمتع بأوسع الامكانيات لإيجاد السلم (في معناه الاصيل).

ويقول التقرير الذي ترجمه “مركز البيان للدراسات والتخطيط” فان السلم الذي يتنج من التأثير التدريجي للمركزية و المرجعية الثقافية لأمة ما في المنطقة يكون ذات اهمية و تأثير أوسع من الانتصار العسكري.،يقول ماكياولي :(الهدف النهائي للملوك هو الانتصار في الحروب؛ لكن السلم يمثل قمة الانتصار) فالسلم هو قمة الانتصار من حيث احتوائه على ثمرات الانتصار كالنفوذ و الاستقرار و الاستحصال و توسع امكانيات العمل و خلوه من شروره.

ويوضح الكاتب، أن السياسة الامريكية الحالية في الشرق الاوسط في الحقيقة بعيدة جدا عن التعريف الاصيل للسلم في حين أن إيران و من المنظور الثقافي تمتلك امكانيات واسعة لهذا الغرض.

ويعتقد الكثير أن يقظة الشعوب، والتطورات السياسية في الدول الاسلامية و العربية هي على درجة من العظمة ؛إذ تؤدي الى خلق فترة تاريخية جديدة في الحياة السياسية للشرق الاوسط، بل البشرية كلها. و أيضا توجد قناعة أن المجتمع المصري الذي كان يعد دائما أم المجتمعات العربية من حيث البدء بالحركات الفكرية و السياسية، ويحتل موقع الريادة من التطورات المذكورة. إن التطورات السياسية في هذا البلد و البلدان الأخرى تشير إلى أن الدولة الامريكية ليست فقط تواجه طريقاً غير معبدٍ للتفاهم و التعامل مع التيارات الثورية في المنطقة الاسلامية، بل أنها بالأساس مضطرة للاعتماد على عناصر النظام السابق و المحافظين منهم، وإن لم تفعل فسيكون عليها أن تبني آمالها و برامجها على الاخلاقيات و الرؤى و عقلية الانظمة السياسية ـ الثقافية الحاكمة، كالقيم السياسية الليبرالية، و صناعة الثقافة الامريكية، والوجوه العلمانية من الطبقة المتوسطة الجديدة، والمؤسسات الدولية الموجودة، وخلق الائتلافات ما بين الدول المحافظة في المنطقة و أمثالها.هذه الحقيقة اذا ما توضحت أكثر مما هي جلية الآن فستشير الى واقع مهم و هو أنه بالقياس مع التطورات الجديدة الفكرية و السياسية في منطقة واسعة من الشرق الاوسط و شمال افريقيا فأن السياسة الامريكية فيها أصبحت من الماضي و هذه الدولة على المستوى الحضاري و التاريخي تعد دولة و نظاماً عتيقاً. حتى وإن لم نكن نريد القبول بهذا الاستنتاج، فأن في مستوى تحليلي أكثر تفصيلا يوجد اتفاقاً عاماُ،و من خلال مجمل التطورات السياسية الجديدة في البلدان الاسلامية(و المسيحية) يمكن تلمس الضعف الامريكي في التخطيط للمنطقة مما أدى الى زوال الهيمنة المستدامة عليها.

وهل هذا الضعف في الهيمنة الامريكية على المنطقة هو محصلة لجريانات مهمة في منطقة الشرق الاوسط؟ و هل سيؤدي بالمقابل الى نتائج مهمة على المستوى المناطقي ؟وهل سيؤدي الى تغييرات أساسية في المفاهيم الامنية و بالأخص في العلاقة المتبادلة بين إيران و أمريكا ؟ جواب هذه التساؤلات سيكون بالإيجاب.

لكن في بادئ الأمر و لغرض فهم أعمق للتطورات الجديدة، هذا المقال يقوم بتقديم تعريف فلسفي و أصيل لمفهوم السلم، و لهذا يفرق بين مفهوم السلم و الترتيب او الاستقرار(الاستقرار الناتج عن الهيمنة)، و يوضح أن هدف أمريكا من استقرار الوضع في الاقليم وثباته، ليس فقط أنه لم يكن هناك سلم بل كان يعمل بالضد من هذا المفهوم. و من ثم يوضح بأن ايران و بلحاظ امكانياتها الثقافية ـ التاريخية أقرب بكثير الى المعنى السامي للسلم. ويفترض البحث أنه في الأساس لم تكن التطورات الجديدة في الشرق الاوسط ردة فعل على الظلم و الفقر و عدم المساواة ؛ بل كانت ردة فعل على الاحتقار وأن المحتوى الرئيس لهذه الثورات لم يكن الحرية و الاستقلال و الحقوق الاجتماعية ـ السياسية فقط؛ بل كان قبل كل هذا المطالبة بالكرامة(من أهم المفاهيم في الفلسفة السياسية الافلاطونية).و السلام هو من منتجات الكرامة، و هو أهم حلقة مفقودة في السياسة الخارجية الامريكية تجاه المنطقة الاسلامية، و لربما أهم عنصر مفقود من الهيمنة الامريكية العالمية في القرن العشرين.

وبهذا فالمقال الحالي يحتوي على رؤية فلسفية ودراسة بشأن ضعف الدور الامريكي في منطقة الشرق الاوسط، وعلى العكس من ذلك نلحظ ارتقاء الامكانيات الايرانية بهذا الصدد، و يسعى هذا المقال أيضاً إلى بيان الفارق الاساس ما بين الاستقرار أو الثبات و المفهوم الأصيل للسلم، و يوضح في الوقت ذاته سعي أمريكا الدائم للوصول للمرتبة الاولى، في حين أن إيران تمتلك أعلى الامكانيات الحضارية و التاريخية لتثبيت المعنى الاصيل للسلم في المنطقة الاسلامية. في نهاية الامر واستناداً إلى هذا المقال يتم الاشارة الى جوٍّ أمني مغاير يمكن أن يغير مكانة الدول و المجتمعات في المنطقة.

•           1 الاستقرار على أساس الهيمنة: الواقع الموجود

نستعمل نظرية (استقرار الهيمنة) في حدود واسعة من المعنى.إذ ارتبطت هذه النظرية في علم العلاقات الدولية الذي يحتوي على مواضيع في مجال الادارة السياسية للمواضيع الاقتصادية الدولية باسم العالم الامريكي في مجال العلاقات الدولية رابرت كليبن(1954).ومن منظوره يطلق( استقرار الهيمنة) على حالة في النظام العالمي يتم فيها فرض قواعد و نظم قوية وعالمية من قبل دولة ذات تفوق في مجالات مختلفة للحفاظ على استقرار النظام القائم وتوازنه لاجبار الدول الأخرى على اتباع تلك القواعدGlipin،1987. ويبدو هذا التعريف بسيطا و مفيدا ؛ لكن من هذا التعريف الذي يتصف بهاتين الصفتين ينبثق تساؤل بسيط و صريح ؛ ولكن كل تساؤل بسيط يحوي بذاته الامكانية في أن يكون تساؤلا أساسيا و محوريا، لماذا استقرار الهيمنة الأمريكية و بالمقارنة مع السنوات الاولى من عقد التسعين من القرن الماضي يبدو أضعف بشكل مجمل ؟ وبشكل خاص لماذا لم تتحقق أهداف السياسة الخارجية لهذه الدولة العظمى بشأن ايران؟، وأنها ليست بالمستوى المطلوب؟

إن قصة العلاقة الامريكية – الايرانية الجديدة كانت قد بدأت مع انتهاء الحرب الباردة. إذ بدأت القيادة الامريكية هذه المرحلة في سنة 1991، مع الهجمات الواسعة ضد العراق في اطار عملية تحرير الكويت. هذه العملية، و كما تبينت في وقت لاحق، كانت مقدمة لتدخلات امريكية بشكل واسع في اقليم تسبب فيما بعد بأهم التحديات وأوسعها لموقع امريكا في النظام العالمي. إذ سعت الولايات المتحدة و عن طريق الخطط الاستراتيجية و البرامج الاقليمية كخطة الشرق الاوسط الكبير، و التنسيقات الموجهة تحت المظلة الامنية لحلف النيتو، و عن طريق التأثير و التوجيه للمعاهدات الاقليمية كمنظمة دول الخليج العربي و غيرها،الى تثبيت الاجواء المناسبة لها في الشرق الاوسط و الخليج. لكن هناك تساؤل مهم يطرح نفسه، إن أي دولة عظمى الى أي مدى تستطيع اقناع ضمائر النخبة السياسية و الطبقات الوسطى و عامة الناس بموازينها و معاييرها الخاصة عن طريق مجموعة من التصرفات الأحادية الجانب كالتهديد و الترغيب و التطميع و التحذير؟

حتى اذا ما افترضنا أن سياسات الولايات المتحدة الشرق في الاوسط أدت الى استقرار أوضاع المنطقة وترتيبها، هل نستطيع القول: إن الاستقرار و الترتيب هو عين السلم؟ هل تستطيع الولايات المتحدة بصفتها دولة عظمى أن تبسط السلم العالمي ليس فقط على مستوى الدول بل على المستوى الادق ألا و هو مستوى الشعوب و بهذا تبسط السلم بمعناه الحقيقي ؟ سنكون في موقع أفضل للإجابة على هذا التساؤل اذا ما عمقنا فهمنا لمفهوم السلم.

لا خلاف أن الفلاسفة القدماء وضعوا مفهوماً عميقا لمفهوم السلم، و هذا المفهوم يرتبط بشكل وثيق مع العواطف و الفكر الانساني.السلم في منظارهم مفهوم يرتبط بالاجتماع و التجمع، و هو الانتقال من الصراع الى الهدوء و الرضى. نستند هنا الى اجوستين القديس كمصدر لفهمنا النظري من السلم.يقول سنت اجوستين: السلم هو الهدف الاسمى للإنسان و جميع المخلوقات،و المخلوقات جميعها و بتأثير من غريزة حب الحياة تسعى الى السلم.وهدف المجتمعات كلها هو السلم. والسلم في المجتمعات الانسانية تناغم و اتفاق الناس في العلاقة المنتظمة فيما بينهم. والسلم هو علاقة ايجابية(positive) أي أنه توافق ايجابي بين شريكين او جارين أو أكثر على التعايش بسلام. اذا السلم لا يتحقق إلا من خلال شريكين أو أكثر… فالسلم لا يعني فقط عدم وجود الحرب أو الحفاظ على العلاقات الدولية بواسطة اعمال القوانين الحقوقية و تنفيذ الاحكام القضائية،بل من شروط السلم التوافق و التعاون بين الجهات ) (بازاركاد1382) وتأييداً لنظرية سمو السلم كهدف اجتماعي، يُنقل عن غوته :أن السلم هو أعلى من جميع القمم)يمكن مقارنة هذا التعريف للسلم مع التعريف الحديث له و الذي يشير الى أن السلم هو عدم وجود الحرب و ليس هناك من ضرورة للتوافق و العمل الايجابي. بعبارة أخرى للسلم في العرف العالمي المعاصر مفهوم سلبي و ليس ايجابياً.

وبشكل مجمل يمكن القول: إن السلم في استعماله الحديث مرتبط بمعنيين خاطئين.

•           2 هل السلم هو عدم وجود الحرب؟

من الواضح أن حالة عدم وجود الحرب يمكن أن تكون عنيفة، والعنف الموجود في حالات عدم وجود الحرب يمكن أن يكون عنفا نفسيا او عاطفيا او اقتصاديا او سياسيا. فاذا عُرضت حالة السلم على انها حالة عدم وجود الحرب يمكن أن تبرر جميع حالات العنف الشديد والخفي من ضمنها ؛ لأن الذي يظهر من هذا التعريف أن السلم هو عدم اظهار العنف فقط، في حين، أن عدم اظهار العنف لا يعني عدم وجوده و حالة اللا حرب يمكن أن تكون النموذج الجامع و الكامل للعنف المنظم الشديد و لكن بصورة خفية.

وحالة عدم وجود الحرب يمكن أن تكون ببساطة قسم من أقسام الحرب، و أن تقع قبل حالة الحرب أو بعدها. فالحرب حالة و ليست اقداماً على عمل. يقول تامبس هابز أن الحرب هي طريقة تفكير وهي وضعية يمكن أن لا تقع خلالها عمليات خاصة بشكل واضح. وتحتوي حالة عدم الحرب، بشكل قليل او كثير، وبالقوة او بالفعل بداخلها على عناصر العنف. ويرى الكثير من الفلاسفة أن السلم ليس عدم وجود الحرب؛ اما النظرة الحديثة فتقول: أن السلم هو ليس حالة الاستقرار فحسب؛ بل يشير الى حالة أبعد من هذا.

•           3 هل السلم هو الترتيب( الاستقرار) ؟

من الواضح أن حالة الترتيب في العلاقات الدولية تختلف عن حالة الترتيب في البيت او المكتب او مكان العمل، فتعريف الترتيب او الاستقرار في العلاقات الدولية هو قواعد تفرض على المجتمعات بشكل فوقي و عن طريق علاقات القوة و من الخارج، او تفرض داخل المجتمعات على المجاميع الانسانية. وتؤدي ايضا فكرة تنظيم المجتمعات وترتيبها الى نوع من سوء استخدام لمعنى السلم. في الحقيقة أن الترتيب يمكن أن يحتوي على ابعاد قمعية ايضا، لماذا ؟ لأن المسارات التي تهيئ الارضية لازدهار الانسان و المجاميع الانسانية هي تركيبة متنوعة وغير متعادلة من الترتيب و العصيان و المخالفة و رد الفعل و حب التنوع. والترتيب المحض يعني الجمود، و في هذه الحالة بسبب العلاقات الصعبة و المستحكمة تصعب عملية الابداء الحر للآراء من قبل الاشخاص أو الدول المشمولة بهذا الترتيب و الاستقرار، و بالنتيجة تكون التصرفات مفروضة و ليست حرة. وفكرة الاستقرار حتى وإن لم تكن متجذرة في الاذهان فإنها لا تعدو أن تكون حقيقة قديمة و بالية ؛ بسبب فقدان الحراك الداخلي و الاهداف الانسانية، و الابعد من هذا بسبب اعتمادها على علاقة الأقوى بالأضعف، وتبقى بالضرورة قصيرة العمر و معرضة للتخريب في التحولات الجديدة.

وفي الفهم القائل: أن السلم هو الترتيب تكون التفاعلات و التعاملات بشكل هادئ و منتظم؛ لكن يبقى عامل العنف فيها خفياً و داخلياً. ويبقى الميل في هكذا حالات من جهة الى تشكل التعاملات استنادا الى التعقل المحض و من جهة أخرى يتسبب في فقدان الدوافع و الأمل عند الانسان.كحالة عامة يمكن القول : أن فكرة السلم كعدم وجود الحرب وأن السلم استقرار و ثبات، ما هو إلا العنف الخفي و باستعمال القوة سواء على المستوى الداخلي كان أم الخارجي و الدولي ويمكن الذهاب حتى ابعد من هذا بالقول: أن السلم كعدم وجود الحرب و السلم كاستقرار و ترتيب فضلاً عن انها لا تعد سلما، بل هي بالأساس نتيجة للحروب، لأن من منظار( ريمون آرون ( الحرب هي فعل مجتمعي ناتج عن ارادة المجتمعات المنتظمة سياسيا بهدف انتصار أحدها على الآخر (aron،on war، 12). ويتحرك المنتصر في الحرب عقب انتصاره نحو تثبيت دعائم نظامه المطلوب ؛لهذا يطلق كلاوزيوس جملته الشهيرة: أن المنتصر يحب السلم )؛ بمعنى الترتيب )آرون،مذكرات 242).لهذا فالميل الى عدم التحارب و خلق الثبات و الاستقرار و الترتيب هو ميل الجهة المنتصرة في الحرب.

•           4 المعنى الكلاسيكي للسلم

فاذا لم يكن السلم هو عدم الحرب والاستقرار و الترتيب فما هو اذا؟ في تعريف الاجوستيني للسلم توسيع لتصور السلم، فالسلم عنده هو الهدوء الذي ينبثق من الداخل سواء كان على المستوى الفردي أم على مستوى التجمعات الانسانية(صدريا و بارسا،84،141 ) ولنفهم هذا المعنى على المستوى الفردي أولاً. يقول هايدكر في مقال تحت عنوان (البناء، اللجوء، التفكر) ما مضمونه : ليس بناء الجسر أو البناية أو الطريق هو ما يوصلنا الى الهدوء و يشير الى وجودنا، بل صرف عملية البناء نفسها هي ما تجلب لنا الهدوء و تثبت وجودنا. أن العمل الغافل و التلقائي و العادي هو ما يجلب لنا الهدوء في النهاية، والسلم هو نتيجة الاعمال الضرورية في اللحظة التي توجد الصلة و الانس بيننا و العالم المحيط بنا(محيطنا المحلي)، وتخلصنا من همِّ الوحدة و الانزواء و تُوجد فينا السكينة و النقطة المقابلة و المضادة لها،و هي التأمل أو التفكر المجرد بالمواضيع العقلية.

فالإنسان يقفز في حالة التأمل من الزمن الحاضر أي المكان الذي هو حاضر فيه الآن بالانشغال باليوتوبيا ليخرج من الظروف الملموسة التي تحيط به ؛ فلهذا التأمل او الانشغال بالتنظير المفهوم المستند الى التعقل المجرد يشكل النقطة المقابلة و المضادة للحضور المفيد في الوقت الحاضر. ولا يرتبط مفهوم السلم بالتعقل و التنظير بصلة؛ بل هو مفهوم جماعي يتحصل من هدوء الافراد وسكينتهم(في حياتهم الفردية او الجماعية) وهو بالأساس ناتج عن تصالح الشخص مع نفسه. اذا النسخة الجماعية لهذا التعريف هو أن السلم على مستوى المجتمعات ناتج عن مصالحة وتوافقات شاملة بين الجماعات الانسانية التي وصلت الى الهدوء والسكينة الفردية في ما مضى.

ربما كان منتسكيو يشير الى هذا المعنى عندما كان يقول : أن السلم الحقيقي هو في الرضا و التناسق. وبالنتيجة أن السلم هو جريان ينبثق من الداخل، سواء أكان داخلا فرديا أم مجتمعيا،في حين أن الترتيب و الاستقرار هو جريان يفرض من الخارج. والسلم شجرة تنبت من أساس المجتمع وعمقه، و تتجلى في مناسبات يومية و تلقائية و رسمية. وفي الوقت الذي نجد فيه الترتيب يوحد بين المكونات، نجد السلم يولد تكثيرا(نفسه 147 ) اذا ليس السلم اقامة الترتيب و اقرار الاستقرار، بل هو عملية تشكل الاستقرار و نضوجه و ظهوره. ويقع السلم في النقطة المضادة للتخطيط المركزي،والبرمجة الحكومية،وارادة الترتيب وارادة التحكم و الهداية.

والسلم هو سكينة تعرف في حالات عدم الانتظام و الشغف الملتهب و اللا تقرير و العلاقات الحارة، أكثر مما يعرف في حالات الترتيب. ويمكن اعتبار الكاتب نموذجاً لهذه الحالة، فهو يمتلك باطناً وثاباً و غير مستقر لكنه في الوقت نفسه لديه رضا و سكينة خاصة.وعندما يتكلم تراه فرحا مرتاحا في حين هناك عاصفة في داخله يستوحي منها الدافع لخلق عمله الفني.

نستنتج من هذا القول أن السلم هو مفهوم جماعي يرتبط بالشغف التلقائي و الميل الى البهجة و التحفيز الحر و الميل للنشاطات الواسعة غير السياسية، وهذه النشاطات تشكل هوية السلم الحقيقية.

وتظهر هنا الضرورة لنوع من التمييز، فالترتيب او الاستقرار أولاً: يشيران الى القوةالمنظمة، وثانيا: لهما هوية فردية (فرد واحد او دولة واحدة او مجتمع واحد) و ثالثا: يبحث عن ضمان استحواذ الجهة الغالبة من اللذة او النتائج الممتعة المتحصلة من الانتصار. ويتمركز في محور الارادة المنظمة موضوع الاستمتاع من مزايا الامتلاك؛ لكن السلم يبحث عن خلق منطقة من الشوق و الرضا و الراحة. واللذة مفهوم غريزي و حيواني في حين أن المسرة و البهجة مفهوم وقابل للتكامل. والعقلية المتكاملة هي وحدها التي تكون قادرة على الارتقاء باللذة الى مستوى البهجة و العقلية غير المتكاملة تبقى في مستوى اللذة.وهناك ايضا لذة في البهجة و الرضا لكن اللذة ليست مكونها الوحيد.ويكمن البعد الخارج عن اللذة في البهجة، عند استطاعة الانسان بلورة ما مكنون فيه من حاجة و ارادة ابعد من الاحتياجات الغريزية.

مرة أخرى نؤكد أن الترتيب هي عملية تستحصل من الخارج، في حين أن السلم حقيقة واسعة وتدريجية تنبثق من عمق المجتمع (على خلاف الترتيب و الاستقرار الذي هو عبارة عن عملية محدودة تنتج من التخطيط و البرمجة العقلية ).والاختلاف بين السلم و الترتيب هو الاختلاف نفسه ما بين الارادة للحياة و الارادة لفرض السلطة على الحياة. والارادة للحياة هي ارادة فطرية، و لهذا ظلمت من قبل الفلاسفة الحداثويين. لا تأجل هذه الارادة ـ التي تتجلى في السلم و تتجلى في العلاقات اليومية و البسيطة بالظاهرـ اليوم الى الغد، إنها لا تتقيد بالعقليات المعقدة و لا تتنقل بين العقليات،ولا تبحث عن ايجاد ترتيب لغرض قيادة ابعاد الحياة بل تبحث عن البهجة و الشغف التلقائي للحياة.و في هذا الاتجاه كان يقول (هردر): اني لست هنا(في الحياة) لغرض التفكير بل لغرض الحضور و الاحساس و الحياة.

ويسلب المنطق العنيف للترتيب او منطق الثبات و الاستقرار كل شيء من الجميع و ما يعطيهم عوضا عنه هي لذة امتلاك الاستقرار المطلوب للشخص المنتصر، في المقابل يعطي منطق السلم كل شيء للجميع. فالمعنى المنبثق من هذا الكلام هو أنه في الوقت الذي مهمة الترتيب هي التوحيد، يقوم السلم بخلق التعددية؛ لأن ما يحكم في الترتيب هو الارادة الفردية(للفرد او الدولة الواحدة) في حين أن السلم هو نتاج التفاعلات التاريخية الواسعة بين الاشخاص فيما بينهم. والسلم في الاساس هو العقلية المصقولة للأفراد البشرية التي تجري في جوانب الحياة البشرية المختلفة؛ لكن الارادة المبنية على الافضلية و السلطة و القهر تبحث عن حرف هذه التعددية المتحررة المبنية على اساس الارادة الحرة لأفراد المجتمع عن طريق اختراقه (نفسه )، أذا الاختراق هو الشكل الخارجي و التنفيذي لإرادة الهيمنة و الامتلاك، او لنقل: إنه تنفيذ لإرادة الهيمنة او المقدمة له و البداية لتحقيق عملية خرق السلام. ولربما تكون الفحوى الأساسية من النهج الاصيل للسلم، هو تضاده مع مفهوم الاختراق المتعمد او التخطيط للاختراق من الخارج.

5. السّلم في مقابل النفوذ

إن ما يميز السلم أنه لا يُفرض ولا يُخطط له من الخارج ؛ بل ينبثق من الداخل. وهو من فوارق (شخصية) المجتمعات والأمم وليس الدول والسياسيات. وعندما تبحث دولة ما عن الاستقرار (السلم) بذكاء وتريد أن تُقعّد اتجاهاتها الأمنية على أساس السلم، يتحتم عليها أن تجتنب منحيين قوميين هما: استئثار الموارد (المادية) وارادة الهيمنة والسيطرة، والأهم والأعقد منهما، تأصيل (مأسسة) نظام تعامل ينبع من داخل مجتمعات المنطقة، ولا يتخذ من التنمية والهدوء هدفاً لدولة بل لمنطقة يكمن فيها.. وهذه السياسة ليست أخلاقية وصائبة فحسب بل هي مفيدة ومعقولة.

والنفوذ لا يقوم إلا بسياسة عدم النفوذ وعلى العكس، فإن سياسة النفوذ، غالبا ما تؤول الى عدم النفوذ في نهاية المطاف. إذ أن النفوذ فيما عدى الجذور الثقافية والنفسية، لا يعد نفوذا، وربما نستطيع أن نسميها التدخل المؤثر وهو حقيقة سطحية ومؤقتة. فضلاً عن ذلك، فإن تعدد النفوذ وشموليته، على مستوى المنطقة هو أكثر انسانية، وثمرة، وعقلانية، من النفوذ الاحادي من قبل دولة عظمى أو دولة قوية من دول المنطقة. هذه السياسة تؤدي الى تنمية متوازنة وشاملة مما يجعلها فضاءً تتعاطى فيه وتتعزز بواعث التنمية والتطور فيما بينها، إلا أنه في سياسة النفوذ الاحادي (هيمنة دولة ما ومجتمع ما على الدول والمجتمعات الاخرى)، تكون التنمية في غاية التعقيد والكلفة ؛ لأنها ليست واسعة وشاملة،وإن النفوذ الاحادي لا يكون إلا نفوذا من جانب واحد، فهو يفتقد التنمية الذاتية والانتشار.

ولو أردنا أن نشخص النقص في النفوذ الاحادي فأننا نجده في عدم شموليته، بمعنى أنه يفتقد النمو الذاتي والانتشار بل هو بالضد من ذلك، إذ أن الدولة التي تطورت عبر النفوذ الاحادي تكاد تحرم الآخرين من هذا التطور. فضلاً عن ذلك فان هذا التطور غالبا ما تواجهه تهديدات أمنية، فلا تنال الأمن بشكل كامل ونجاحاتها تعتمد على تقويض التهديدات(اللا أمن) وهذا لا ينتج أماناً،و تقويض التهديدات ليس أمنا. حتى ولو بذلنا كل الجهد لتقويض التهديدات؛ فأننا مع ذلك لن ننتج الأمان.

والسبب في عدم نجاح النفوذ الاحادي في الاتساع والشمولية، هو أن النفوذ والتوسع بالمعايير الاخلاقية والايديولوجية او الواقعية والميدانية، يتعلق بالثقافات والمجتمعات وليس بالدول. فضلاً عن ذلك، فان النفوذ والتوسع، حقيقتان متقابلتان. إذ أن النفوذ يخترق الثقافة ثم يتوسع ليشمل الدولة والقضايا السياسية، ولا يبدأ من الدول ليصل الى الثقافة والمجتمع. ثم أن النفوذ يجب أن لا يهدف الى توسع السلطة، بل الى توسع الحرية التي تعني توسع مساحات العمل الخلاق وحرية الابداع.

6. السلم، و التأثير المتقابل

إن السلم المتكون عبر التأثير المتقابل (وليس الأحادي) والاجتماعي (وليس السياسي) والعفوي( وليس المنظم والمركزي) هو المفهوم اللاأنموذجي الذي يتقاطع ومفهوم التأثير في النظرية الكونية. وبذلك تصبح التأثيرات المتقابلة والواسعة تتجه نحو مفهوم كلي وعام يتعدى مفهوم التأثير ـ حتى ولو كان تأثيراً واسعاً وعادلا ـ ألا وهو ضمان حق التأثير المتقابل، والحر، والواسع لجميع الأمم؛ وهذا ما نسميه (السلم)، بعبارة أخرى، إن هذا التأثير، أساس انبثاق الثقافة والمفاهيم الاقليمية، وعليه فان مفهوما شاملاً وعادلاً وعفوياً من التأثير لا يسمى اختراقاً (نفوذاً)، وإنما هو حرية، وولادات مبدعة، ومكافحة الهيمنة،والاستقلال، والبحث عن هاجس الاستقرار وهناء الحياة، وبعبارة أخرى، هو مسيرة حياة بسيطة على مستوى المنطقة.

وبالرغم من ذلك، فأن السلم لا يعني التساوي بين الامم في حياة المنطقة. والتأثير اذا كان متعدداً، ومتداخلاً، ومرتبطاً مع المجتمع والثقافة وباعثاً عنه وبعيداً عن الهيمنة، بطبيعته لا يمكن أن يكون (متساويا) بين الامم في مستوى التأثير وكميته،إلا أنه يكون في دائرة (العدالة).والسبب في ذلك، أن استعداد الشرائح الاجتماعية والمجتمعات الانسانية في مدى قدرتها على الابداع، والانتاج، والتنمية في مختلف مجالات الحياة ليست بالمستوى الواحد، ومن هنا كانت حالة عدم التساوي في تعاملات أمم (شعوب) المنطقة. إلا أن فقدان هذه المساواة لا يعني فقدان العدالة، إذ إن اللا مساواة أقرب الى العدالة من المساواة.

إن التحدي الذي تواجهه المنطقة أمام الولايات المتحدة هو ليس عدم التكافؤ بين هذه الدولة ودول الشرق الاوسط من حيث القدرة والثروة و؛ إنما هو ارادة الهيمنة والتسلط وعدم الاهتمام بالحرية لدى الولايات المتحدة ؛ أو استخدام آلية الرقابة والتوجيه لمنع انبعاث الحريات في هذه المجتمعات، وهذا هو الظلم (اللاعدالة) وربما تعني العدالة في توجهات دولة عظمى، أن تعطي الامم استقلالها وحريتها في اختيار السعادة كما تفهم الأمم وتكون (الدولة العظمى) مصاحبة لهذا الاختيار ومساندة له، عندها تتحول هيمنة الدولة العظمى الى قيادة تتمتع بالأخلاق في تعاطيها مع قضايا المنطقة أو العالم. إن الجمهورية الاسلامية بعيدة عن هذه المرحلة المنشودة، ولكن الولايات المتحدة أبعد بكثير عن ذلك. وإن المسافة بين الولايات المتحدة وحلم السلم في الشرق الاوسط هي أشبه ما يكون بمسافة الحرب عن السلم.

7. حضور الولايات المتحدة في الشرق الاوسط، بين السلم والثبات:

من الواضح أن الولايات المتحدة لم تتوفق في التطبيق الكامل للمقولة الأرسطية التي تقول: لا يكفي أن تنتصروا في الحرب وتسيطروا، بل الأهم هو أن تنظموا السلم. ولكن يبدو أن الفلسفة السياسة توصلت الى أن السلم لا يحصل بجهود جهة واحدة ولا يدوم عبر جهود مركزية لدولة عظمى ولا هو من المفاهيم المتعلقة بالمصالح المادية للشرائح الاجتماعية والدول.

فتطبيق النموذج التقليدي للسلم أو السياسة الشرق أوسطية للولايات المتحدة ومخططاتها في المنطقة ليس أمراً صعبا. ومن الواضح أن الولايات المتحدة مازالت تسعى ـ خلافاً للتعريف الجديد للسلم ـ لاستقرار الثبات وخلقه في المنطقة من أجل ديمومة التأثير؛ لضمان مصالحها ومنافعها الخاصة.

وتقتصر المساعي لاستقرار الثبات والنظم على ال(أنا) من دون مشاركة الآخرين، وهذه ال (أنا) لا تهيمن وتتسلط إلا بعد تضعيف الآخرين بل وتحقيرهم، بمعنى أن يقبلوا الضعف ويجعلوه ذاتيا ؛ من هنا، يمكننا القول أن عقلية الولايات المتحدة في السياسة الخارجية في الشرق الاوسط وفي مناطق أخرى (أساساً) لا تستطيع تحقيق أهداف ممدوحة ومرحب بها.

نؤكد مرة أخرى أن النظم والثبات الذي يهدف الى السلطة، هو يعارض السلم، والتكثر، والابداع واستقلال الافراد، وفي الحقيقة، إرادة الولايات المتحدة لاستقرار نموذجها في النظم، تعد محاولة دولة حرة لتعتيم الحرية. وإن الولايات المتحدة التي تمتعت في تاريخها بالسلم، والتعددية، والحرية، وظهور الابداعات في سياستها الداخلية، نجدها في سياستها الخارجية تخطو خلاف ذلك.

ومما تقدم نستطيع القول إن الولايات المتحدة ـ دولة الديموقراطية والحريات ـ هي ضد السلم والحرية، وهذا يقودنا الى التساؤل: هل الفرض والضغط الخارجي الذي تفرضه دولة ليبرالية ـ ديموقراطية عظمى- على الامم (الشعوب) الاخرى، هل هو شرط لتحقيق الحرية الداخلية في هذه الدولة؟

وقد أجاب تلميحاً (جون لوك) قبل سنوات عدة على هذا التساؤل بالإيجاب، بشأن هيمنة بريطانيا على الهند، وبعده أكد (ريشارد رورتي) الإجابة. وكان يعتقد أن الديموقراطيات القوية (وغالبا ما يقصد الولايات المتحدة)، تواجه تزاحما بين ديمومة المؤسسات والاعراف الديموقراطية الداخلية، والتعامل العادل مع دول العالم الثالث.

ولا يسعنا أن نفصل القول في هذا الموضوع في مقالنا هذا ولكن نكتفي بهذا الاستنتاج : أن أصول الديموقراطية في السياسة الأمريكية والدول الغربية، لا تُمكنها من تطبيق مخططات تسعى فعلا الى السلام في السياسة الخارجية ؛ لأن استثمار أدوات الديموقراطية في بلد الأم، يستلزم استغلال الادوات غير الديموقراطية (دعم الديكتاتوريات، و تضعيف النخب السياسية المستقلة، ودعم الخلافات والتفرقة، والاستغلال الاقتصادي و…) في دول العالم الثالث. وهذا الاستنتاج حتى وإن لم يصدق نظرياً فهو معمول به عمليا.

فيظهر أن الولايات المتحدة مضطرة على أن تعمل بشكل غير ديموقراطي في الشرق الاوسط، وما عدى ذلك سوف تواجه مؤسساتها، ومصالحها، وقيمها الداخلية أزمة خطيرة. عندما يتحدث الساسة الامريكيون بكل صرامة وحدية عن مصالحهم خارج الولايات المتحدة، يتبين أن هناك علاقة وطيدة بين المصالح الخارجية لدولة غربية عظمى وبرامجها المدنية والديموقراطية في داخل تلك الدولة. ولكن خلافاٌ للولايات المتحدة التي هي مُضطرة الى أن تعمل، عكس سياساتها الديموقراطية الداخلية، بعقلية الهيمنة والسيطرة لا بعقلية الديموقراطية، في سياستها الخارجية لاسيما في منطقة الشرق الاوسط والمناطق القريبة إلى إيران، إلا أنه يتحتم على ايران أن تلتزم الديموقراطية في سياستها الخارجية تجاه هذه المنطقة والمناطق الاخرى المحيطة بها. اذا ما الذي يعنيه هذا الاختلاف؟ وكيف تستطيع ايران أن تلتزم الديموقراطية في سياساتها الخارجية في المناطق القريبة منها؟

مرّ بنا سابقاً، إن السلم، مقارب لحرية الأمم (عفوية حياة الافراد والشرائح الاجتماعية). والحرية من جهتها مقاربة لضرورة الديموقراطية وتساوي الامم. وفي الواقع، هناك مسافة منطقية ضئيلة بين السلم والحرية، وبين الحرية والديموقراطية بمعنى العدالة الاجتماعية. وببيان آخر، السلم في معناه العام، يضم حرية الأمم والديموقراطية أو العدالة. وهذه المعادلة تشمل السياسة الداخلية ايضا. كان يعتقد (كارل اشميت) أن أساس الديموقراطية الأوربية هو أن يتساوى الأمراء والرعية.

إن نظرية السلم التقليدية في العلاقات الدولية، في اساسها وماهيتها تلتزم بالديموقراطية. ويمكن أن تعرف الأمم(الشعوب) الديموقراطية في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية،بغض النظر عن مستوى ثرواتها وقدراتها وتأثيرها، بحكم كونها تشترك في الانسانية، فجميعها تتمتع بمستوى واحد في حق تحديد مصيرها ومستقبلها، ومستقبل منطقتها، وكيفية تعاملها الاجتماعي (الجماعي). وهذا الاصل البسيط والعميق لم تعر له الولايات المتحدة العظمى أهمية، لكن ايران الثورة الاسلامية، لابد لها أن تحترم أصل الديموقراطية في سياساتها الاقليمية، وهذه الملاحظة بحاجة الى تفصيل.

8.ايران، دولة مستعدة لنظرية السلم التقليدية

يرى الكثير من الباحثين أن ايران في ماضيها وتاريخها كانت كياناً ديموقراطياً في المنطقة والعالم القريب منها، حيث كان الايرانيون والثقافة الايرانية في تعامل وتداول ثقافي واقتصادي متواصل مع القوميات والمناطق المحيطة بها، ونادرا ما تجد موقف يدل على ارادة الاستيلاء والهيمنة السياسية من قبل ايران. كاحتمال وعلى المستوى النظري، يمكننا القول أن الثقافة الايرانية ونفسيتها تكاد تكون فلسفة اخلاقية، تُلهم الحرية والاستقلال في التعامل مع الامم الاخرى. ونتحدث هنا عن الاستعداد العالي لإيران لدفع عجلة حياة اخلاقية عفوية على مستوى المنطقة، وهذا هو السلم أو العلاج القطعي للحرب. ولعل هذا هو المعنى الذي أشار اليه (هوبز) حينما قال: يجب أن نبحث عن علاج الحرب في فلسفة الاخلاق (اشتراوس، 365) ولاشك أنه كان يقصد بفلسفة الاخلاق ما يندرج في ثقافة مجتمع معين (نموذج هوبز هو المجتمع الناطق بالإنجليزية) وليست التعاليم العامة للدين.

اذا صح هذا، فنستنتج أن أياً من الحكومات الايرانية تستخدم مخططات مركزية، وتوجيه سياسي، وتنحاز الى التأثير الاحادي، فقد نقضت الأصل الثقافي المكرس في المجتمع الإيراني، ألا وهو نشر الحياة الحرة والمستقلة على مستوى مجتمعات المنطقة، وباختصار، إذا ارادت أن تكون الدولة القومية، في سياستها الخارجية، تكون قد ناقضت تاريخها ووجودها. ولاشك أنه يتحتم على الدولة الايرانية أن تلتزم بسياسات السلم أو الاستراتيجية التقليدية للسلم، وفعلا الجمهورية الاسلامية الايرانية قد التزمت هذه السياسة في أطروحتها الخارجية بمستوى ملفت للنظر. وفي الحقيقة، إن مفاهيم احترام العدالة بين الأمم، وحب الخير للجميع، والاذعان بان التنمية، والكمال، وكل شيء في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، ليست مفاهيم قومية بل اقليمية، هذه المفاهيم متأصلة في تراث مؤسس الجمهورية الاسلامية الامام الخميني (ره).

إن هذه المفاهيم كلها والتي أشرنا اليها لتبيين مفردة السلم، تجدها في خطابات الامام الخميني (ره) قد ذكرها في ذيل الاخوة بين الامم الاسلامية. إذ يرى مؤسس الجمهورية الاسلامية، أن جميع القيم في العلاقة مع الامم المحيطة بإيران، تتجلى في عنوان الاخوة. وبحسب رأي الامام الخميني (ره) إن شعب ودولة الجمهورية الاسلامية… بحكم القرآن الكريم تتعامل مع جميع الدول الاسلامية وغير الاسلامية بالأخوة الايمانية”. يعتقد الامام أن : جميع المماليك الاسلامية نتعامل معها كأنفسنا”و ” نحن نجد انفسنا دوماً شركاء في مستقبل (المسلمين).” (الامام الخميني، صحيفة النور، 115)والأخوة تعني درجة كبيرة من القرب وتعهدات كبيرة، من دون الشعور بالاستعلاء. ويعتقد الباحث بعد قراءة جميع كلمات الامام (ره)بشأن العلاقات الدولية والسياسة الخارجية بتمعن، أن لا وجود لمقولات فيها دلالة على استعلاء القومية الايرانية (ككيان سياسي له أولوية وتفوق أمام الاخرين) في كلماته وخطاباته (ره). ونؤكد أن متابعة اهداف قومية، تلك التي تندرج في اطار الانموذج القومي ـ الحكومي،لا تعارض تفكير الامام (ره) ـ الذي كان يقول : إن الاسلام لا يتلاءم مع (النزعة القومية) ـ فحسب وانما متابعة الاهداف القومية تعد محاربة لتاريخ الثقافة الايرانية ومرجعيتها في المنطقة.

ويكمن الفرق بين السياسة الخارجية الايرانية تجاه الدول الجوار والسياسة الخارجية للولايات المتحدة في المنطقة، في الفرق بين السلم والثبات (أو النظم)، أو بين الحرية والسيطرة، او بين العفوية الذاتية والفرض الخارجي، وبين التعدد الخلاق والعنف الخفي، وبين الاعتقاد بالدينامية الاجتماعية من الأسفل الى الأعلى والاعتقاد بالدينامية السياسية من الأعلى الى الأسفل، وأخيراً بين الحياة الدينامية والغائية العقلانية. وماذا يعني هذا الفرق الأخير؟ تسعى إيران من خلال سياستها الخارجية إلى إحياء ثقافة ما قبل الحداثة (الثقافة القديمة)، هذا الماضي ما قبل الحداثة في المنطقة، ربما لم يكن مرحلة ذهبية، ولكنه كان يحمل في طياته نسبة أعلى من العلاقات الحرة، وابداعات الأمم واستقلاليتها.

ويبدو أن ايران في نهاية المطاف تبحث عن تجديد الحياة نفسها وإعادة الثقافة القديمة ذاتها ( ما قبل الحداثة) في المنطقة، تلك المرحلة التي كانت ايران مؤثرة من دون أن تخترق وتهيمن. وكانت ايران في المرحلة التاريخية ما قبل الحداثة مرجعية ثقافية، واجتماعية، وعلمية، أكثر من كونها قوة سياسية مهيمنة، وبهذه المرجعية الثقافية وليست بالهيمنة السياسية والغلبة العسكرية استطاع المجتمع الايراني أن يسطر ابداعاته المثبتة في تاريخ الاسلام والمجتمعات الاسلامية.

9. ملاحظات جديدة حول الأمن

في بادئ الأمر، ربما نشعر استنادا الى الادراك الذي تقدم عن المضمون التحرري لتاريخ ايران وثقافتها، إن التطورات السياسية المجتمعية و الفكرية الأخيرة في مجتمعات الشرق أوسطية هي في تضامن مع الحياة التاريخية للفرد و المجتمع الايراني في بعده الاسلامي ـ المناطقي. اذا كان هذا الأمر فتعد التطورات الاخيرة في الربيع العربي هي بشكل من الاشكال استمرار لتأثير الثقافة الايرانية ونفسيتها في محيطها الاقليمي.ومن اين لنا بهذا الادعاء الكبير ؟ لماذا نعد اليقظة السياسية في الاقليم ـ هذه التجربة المتوسعة ـ تجربة ايرانية الأصل و نعتقد بأن اليقظة السياسية بدأت من الثورة الايرانية ؟ لكل حدث نتائج من سنخها.

إن الثورة الصناعية أو الثورة المعلوماتية كنموذج،عادة ما تولد نتائج من نوعها و ثورة سياسية بحتة تجر الى نتائج من نوعها.او كما يقول المثل الفارسي(المنقول عن الشيخ البهائي):الحنطة تنبت حنطة و الشعير شعيرا.يقول هايدكر كل فكرة فقط يمكن أن تغير بفكرة من سنخها. نفترض اذا أن الثورات في تقنيات التواصل و المعلومات أو أي مجال صناعي آخر،لا تؤدي بشكل مباشر من دون واسطة الى تطورات نفسية و عقلية و تغييرات جذرية في المعتقدات، بل لها أدوار كالتسريع و التسهيل و التشكيل و هيكلة الحركات.وليس صعبا أن نتقبل أن فكرة اليقظة يمكن أن تنتج فقط من اليقظة، أنها حصراً تجربة ثورة سياسية بالكامل، هي القادرة على التسبب بنتائج من نوعها و أن تتـأثر بالمقابل بنتائج الثورات الجديدة. اذا دراسة اليقظة السياسية الاخيرة تأخذ معناها الحقيقي فقط عندما تتم بالعلاقة مع آخر ثورة سياسية محفزة و هي الثورة الايرانية و تبدأ من هناك، وأما التحولات الأخرى بغض النظر عن مدى كونيتها و تأثيرها العالمي فأنها و بوضوح لا تسبب في خلق اليقظات.

حتى لو لم نستطع اثبات تأثر التطورات العربية الاخيرة بالثورة الايرانية،تبقى هذه الحركات ذات طبيعة متشابهة،لأنها جميعا تشمل المطالبة بالتحرر الداخلي و الاستقلال الخارجي و المطالبة بسياسة داخلية دينية الى حدٍ ما.هذه الحركات و كما يبدو تسببت بخلق موضوعي لوعي سياسي في المنطقة.

بالطبع هناك من الثورات السياسية الكبيرة ما هو موجود قبل الثورة الايرانية كالثورة الفرنسية(1789) و الثورة الامريكية (1776) لكن ينحصر دورها في الوقت الحالي بتجسيد الفكرة حديثة الظهور القائلة بالحرية في اطار المؤسسات و العمليات الديموقراطية الموجودة، و مع ذلك لا يمكن أن تكون هذه الطاقة الجديدة الموجودة لخلق الحرية، بسبب المعتقدات السياسية الاوربية المتكاملة و مؤسساتها القديمة واجراءاتها المستقرة في المشاركة السياسية،لأن هذه الامور جميعها كانت متواجدة منذ 300 عام و من الصعوبة بمكان ربطها بنهضة شاملة حديثة في المنطقة بشأن كيفية تأثير الثورات السياسية الاوربية و الامريكية في السياسة الحديثة للشرق الاوسط (طاهايي،27 ـ 31).

عقب هذا التمهيد، نذكر بعض الملاحظات الامنية الكلية التي ظهرت في الافق نتيجة للتطورات الجديدة في الشرق الاوسط. فماذا كانت الميزة الرئيسة لمفهوم الامن في القرن العشرين (قرن الهيمنة الامريكية) ؟ كميزة اساسية كان يتم النظر الى المفهوم الامني في هذا القرن بشكل مترابط او كصفقة واحدة،أي في اطار الائتلافات و الاصطفافات الهيكلية.وعلى هذا المنوال كانت صورة عدم الامان و التهديدات الامنية تتشكل في اطار المواجهات بين الكتل الاقليمية او العالمية.وفي الحقيقة كانت الدول في حساباتها الامنية لا تنظر الى الأخرى كدولة مستقلة و معزولة،بل تعتبرها ابتداءً جزءاً من كتلة اقليمية او عالمية و من ثم تنشغل بحساباتها الامنية او تسجل اعتباراتها الامنية الخاصة.وبهذه الطريقة يمكن القول: أن الاعتبارات الامنية للدول كانت تسير من الكل الى الجزء، وربما لا نكون مخطئين اذا قلنا: أن الاعتبارات الامنية لهذه الدول كانت تبقى على كليتها،أي أن الاعتبارات الوطنية الخالصة او المرتبطة بالمجتمع الوطني كانت تتكون بالتعاون والتأثير من الدولة العظمى الحامية لها او التي كانت لها اتفاقية معها.لكن هذه الحالة تغيرت كلياً في السنوات الاولى من القرن الحادي و العشرين، السنوات التي قضي فيها وبشكل واسع ان القوة الامريكية لم تعد المهيمنة (بلا منازع و رقيب) على العالم.

ويبدو أن رسم الاعتبارات الامنية وبعد ازدياد اهتمام الامم الاسلامية بسياسات بلدانها ستتحول في المستقبل الى سير تصاعدي: من الوحدة الوطنية الى الاقليم و العالم.وتقع هذه السياسة في النقطة المضادة لما كان يسير في فترة الحرب الباردة.في هذه الفترة كانت الخطط السياسة الامنية ترسم في مراكز البحوث التابعة لمؤسسات السياسة الخارجية للدول العظمى و بإعطاء الاولوية للمناطق الساخنة و محل الخلاف في العالم، و بالطبع فأن أغلب الوحدات الوطنية و مع درجات بسيطة من الانحراف و التغيير كانت هدف هذه الخطط الاستراتيجية.

لكن يمكن التنبؤ في الوقت الحاضر إلى أن الاعتبارات الاقليمية للدول ستتغلب تدريجياً على اعتباراتها العالمية ويمكن التصور أنه مع مرور الوقت سوف يتشكل مستقبل السياسة العالمية بواسطة لعب الدور من الاولويات الاقليمية التلقائية بصورة أكثر من التخطيط العالمي لدولة عظمى. هذا يعني أن التحركات الاقليمية المستقلة في عالم السياسة،ستنطلق من منطق أقوى و تدخل الى عالم السياسة الخارجية من باب أوسع، و سوف تتشكل الصداقات و العداوات استنادا الى مواضيع اقليمية بالأصالة او الاستقلال.

ويمكن بيان هذه الحقيقة بشكل آخر: تأريخ الدول القومية مع النخب التجددية(modernizer – westernizer) الذين كانوا يشكلون النواة الاساسية لتشكيلها يتجه الى الزوال و بالتزامن معه تبدأ فترة الحكومات الوطنية (nation – state) الاسلامية،الامر الذي يفضل بعض المحللين أن يسمونه الاسلاموية المدنية(see Bernard،chapter 1).و تتمثل الميزة الاساسية لهذه الحكومات كما يتبين من تاريخ الحكومات الوطنية في أوربا الغربية عقب الحرب العالمية الاولى و ما هو مكنون في ذات مصطلح الحكومة الوطنية، وأن السياسات ستبدأ بالشعوب لتنتهي الى الحكومات (state to nation).هذه تمثل أنعطافة القرن والتي تعني أن سياسيات الحكومات ستتأثر بالإرادة السياسية للشعب و المجاميع الداخلية

استنتاج: المنهج المحافظ

يبدو أن إيران في زمن نظام الجمهورية الاسلامية لا تبحث عن بناء شيء جديد،بل تسعى الى احياء اقليم عتيق وتجديده.في المقابل فأن الولايات المتحدة سعت دائما و تسعى الى بناء عقلاني للأنظمة الحديثة،وأنها تسعى للتنظيم،وتأسيس الترتيب و خلق الاستقرار المطلوب لها،مستندة على الخطط العقلانية و الحسابات المعقدة ؛أنها ارادة ميكانيكية الطبع، للسيطرة على المجتمعات الانسانية في المنطقة.

اذا التوتر القائم بين ايران و الولايات المتحدة في الأساس هو توتر بين العقل السليم و العقلانية التجريدية الحديثة،بين العقلانية و التعقل،و هذا الخلاف هو خلاف جوهري.وبعبارة أخرى و بتوجه معياري،إن ايران تسعى الى احياء أمر عتيق و الولايات المتحدة تسعى الى تخطيط و بناء حالة جديدة. فأي الاتجاهين يحتل موقعا مجربا و مناسباً و قابلاً للتنفيذ ؟ و التساؤل المصيري هو: من سيملك مستقبل الاقليم ؟هل الاتجاه المعتمد على العقل السليم(العقلانية التفصيلية المجربة) أو الاتجاه المعتمد على العقلانية الحديثة (العقلانية الكلية المستندة على الخطط العقلية)؟

اترك ردا